أيضـًا قد يصمت الإنسان لأنه يحتاج إلى التفكير بعمق فيما يُريد قوله، ليجد كلمات تعبر بمصداقية عن أفكاره أو مشاعره، فرُب كلمات قليلة قريبة إلى الصمت أفضل من أحاديث طويلة لا يُدرك من حولك منها أى شىء.
ومن أسباب صمت بعض البشر، أنهم يصمتون فى محاولة منهم لإدراك الأمور على نطاق كبير يساعدهم على الإلمام بجوانب الموضوع، لكى يتمكنوا من الحكم أو اتخاذ القرارات الصائبة، والصمت أيضـًا وسيلة تساعد الإنسان فى التفكير؛ فقد قيل: "إنه يمنحك طاقة قوية للتفكير بعمق فى كل ما يحدث من حولك"، ومن ثَم يمكن الشخص أن يركز بدرجة كبيرة ويقدم الإجابة الحكيمة إلى نفسه والآخرين؛ وفى هٰذا كُتب عن الملك "لويس الرابع عشَر"، أنه عندما حكم "فرنسا" كان قليل الكلام، شديد التركيز فيما يُقال له، على النقيض من مرحلة شبابه التى كانت تمتلئ بالكلمات والأحاديث. وكان الملك "لويس" يتابع ما يُعرض عليه فى صمت مهيب، ويجيب محدثيه دائمـًا فى هُدوء: "سوف أرى"! ثم تظهر نتائج ذٰلك الصمت الهادئ فى قراراته.
وفى كثير من المواقف يكون الصمت قوة لا ضعفـًا؛ فحينما ننظر فى أمر "يوسُف الصديق"، نجده لم يستخدم إلا الصمت حيال ما ادعته امرأة سيده عليه؛ لقد كان فى إمكانه أن يشهِّر بها أمام زوجها والناس، إذ كانت له مكانة كبيرة عند سيده، لٰكنه صمت فى قوة رافعـًا أمره إلى السماء، فرفَّعه الله ليكون الرجل الثانى، بعد فرعَون "مِصر"، والمتحكم فى جميع أمورها؛ فيقول الكتاب: "وقال فرعَون ليوسف: «أنا فرعون. فبدونك لا يرفع إنسان يده ولا رجله فى كل أرض مِصر»، أيضـًا يكون الصمت قوة حينما يكون إزاء كلمات جارحة؛ يقول الكاتب "نجيب محفوظ": "لا أُجيد رد الكلمة الجارحة بمثلها؛ فأنا لا أُجيد السباحة فى الوحل"، وهنا يكون الصمت درسـًا لمن يجرح كى يتوقف عن كلمات لا تترك وراءها إلا الألم فى أنفس البشر، فما أسهل أن يُرد الجرح بجرح آخر أشد إيلامـًا! وما أقوى النفس وأنبلها: تلك التى تتوقف أمام النفوس الضعيفة فى صمت ومحبة لاحتواء أخطائها!! يقول أحدهم: "لن يُجبِرنى إنسان على أن أتخلى عن شخصيتى وأخلاقى، فإذا فشِلتَ فى رفع أحد إلى مستوى أخلاقك، فلا تدَعه ينجح فى إنزالك إلى مستوى أخلاقه". إن قدرة الإنسان على الصمت، فى وقت لديه فيه القدرة على رد الاعتبار أو التجريح المضاد، لتحتاج إلى قوة عظيمة يستطيع بها أن يسيطر على نفسه ويملِك زمام نفسه: "مالك روحه خير ممن يأخذ مدينة".