مع بداية كل عام جامعى تتعالى بعض الأصوات لتنادى بإلغاء مجانية التعليم , وذلك لأنها فى عرفهم أفسدت منظومة التعليم، وأن مصر على مدار الستين عامًا الماضية أخرجت أجيالا من الجهلاء . ويتصورون أنه بإلغاء مجانية التعليم ينصلح التعليم ! وكأن ما أصاب التعليم فى مصر من سوء لم يستفحل بعد ظهور الجامعات الأهلية التى قد يدخلها الطالب نتيجة إغلاق الجامعات المصرية أبوابها فى وجهه أو لأهداف طبقية لزوم الوجاهة الاجتماعية لا تتعلق بجودة المنتج وفاعليته فى المجتمع كخدمته خريج الجامعات المصرية فى كل المجالات مقابل أجر زهيد يسدد جزءا ليس باليسير مما كلفوا به الدولة زهاء تعليمهم بالمجان هذا من جانب .
و من جانب آخر العائد المادى لمصر من تحويلات العاملين بالخارج ممن علمتهم وصدرتهم من مدرسين وأطباء وأساتذة جامعات وكانوا مصدرا رئيسيا للعملة الصعبة كقناة السويس فى غياب السياحة بعد ثورة يناير ولا أظن أبدا فى بلد كمصر أكبر موارده هو الطاقة البشرية ولا يقوى إلا ١٠٪ منهم على نفقات التعليم الجامعى، لذا يحب أن تكون أولى استثمار فيها أن نزيد من الإنفاق على التعليم المجان، خصوصا أن دخل مصر من أبنائها المتعلمين يفوق ما تتكلفه الدولة؛ وإذا أردنا فلنفرد فى المستقبل لهذا الموضوع دراسة اقتصادية دقيقة أطول يكون مفادها ما وصلت له الدول الكبرى من أنظمة دعم التعليم الجامعى والتى تنقسم إلى قسمين إما أن تدعم التعليم المجانى مثل ألمانيا وإنجلترا وفرنسا أو أن تمنح قروضا للتعلم مطولة مثلما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية على أن يسدد الخريج هذا القرض فى صورة أقساط سنوية تقتطع من راتبه؛ التى بالطبع يتناسب مع متطلبات الحياة الكريمة ؛ فلتختار مصر أحد الخيارين لا الثالث الذى يهدم فكرة دور الدولة فى دعم التعليم الجامعى ، غير أن هناك نقطة جوهرية غائبة وهى ليست مجانية التعليم فى مصر دون مقابل بل بمقابل ! وهو ضريبة الدم، والحق أن الأمر هنا يحتاج منا إلى الوقوف عنده وتحليله وإعطائه الشىء الكثير من التوضيح، فإذا طالبنا مواطنًا أن يذهب إلى الدفاع عن أرض مصر ويدفع دمه ثمنا هناك فليس هذا شعارا وإنما يكون حق الوطن وواجب المواطن، فلا يصح بحال أبدًا أن ننكر عليه بعض حقوقه ومنها التعليم، فما يقدمه المواطن من دم واجب لبلده، ويأخذ من التعليم حقه كمقابل لهذا الواجب المقدس.
و المحزن أن أكثر من يحارب مبدأ التعليم هم من استفادوا من مجانية التعليم ! ويريدون أن يقطعوا على غيرهم الفرصة، والذين يروجون أن مجانية التعليم ما هى إلا شعارا ، إنما يمهدون لمهاجمة فلسفة التحول الثورى من ثورة يوليو 52 وحتى يونيو 2013 ليسقطوا مبدأ تكافؤ الفرص و العدل الاجتماعى.
ليست مجانية التعليم شعارا كما تروج تلك القلة المغرضة , بحيث يسهل إسقاطه، ولكنها حق ومصلحة وهى صمام الأمان و خزانة مصر العامرة التى لا تنضب مهما نضبت كل الموارد تقدم العلماء و الأطباء والمهندسين و المعلمين ، هى صناعة و تجارة كبرى ننتجها و نصدرها تشع نورا وحضارة للقاصى والدانى فكيف تحكمون ! أولم تخرج لنا مجانية التعليم العلماء والمفكرين والأدباء والساسة و أغلب قادة الدولة و الرأى العام ، فليقل لى أحدكم أين تعلم أحمد زويل و مجدى يعقوب و فاروق الباز ومحمد البرادعى ومصطفى الفقى وعمرو موسى ويوسف القعيد وهانى عازر وفايزة أبو النجا، والقائمة لا تنتهى حتى السيد رئيس مجلس الوزراء ومعظم الوزراء والمحافظين تعلموا بالمجان، فما كان لهؤلاء أو لغيرهم أن تظهر نبوغتهم إلا من خلال إعطائهم فرصة التعليم المجانى جميعًا كى تتفتق المواهب وتظهر القدرات العقلية المبدعة التى تعود على الأمة بالنفع والتقدم.
وأقولها مرة أخيرة لتلك العقول المظلمة ، يوم أن نذهب للدفاع عن الوطن لا يسألونك هناك جئت لتدافع عن ممتلكاتك الشخصية ، فتقول "لا" فيقولون لك عد فأنت لست طرفًا فى المعركة ، بل يذهب الجميع فقراء وأغنياء للدفاع عن مصر و يموتون من أجل مصر، فلا ينبغى أبدا أن نقول " لأنك فقير فليس من حقك أن تدخل الجامعة"، فكما على كل مواطن واجبات له حقوق فى وطنه، والتعليم بكل مراحله، والرعاية الصحية، وإعانة العجز والبطالة ودعم الفقراء ومحدودى الدخل، هى أقل حقوق المواطن فى بلده كى يتحقق مبدأ الكرامة الإنسانية والعدل والمساواة.
يا أهل الشر أغلقوا باب الفتنة على الأمة فهذا لا يرجأ منه صالح الأوطان "وسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَى مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ " صدق الله العظيم واهتدوا عسى الله أن يصلح من أمرنا ومن أمركم رشدا.
وفى النهاية السؤال الذى لا أمل وضعه ولا أمل أبدًا الإجابة عليه ، هو ماذا تريدون؟ هل تريدون حل مشكلة التعليم أم إسقاط مبدأ المجانية وإسقاط الحقوق؟. علينا أن نفرق بين حل المشكلات وإسقاط المبادئ ، نحن جميعاً مع حل مشكلة التعليم ، ولكن مع احترام مبدأ المجانية أيضاً، لأن من ليس له حق فى وطن لن يكون له انتماء لأرضها.
* أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة .
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
حمزه ابو حمزه
أحييك استاذنا على هذا المقال الرائع
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الرازق يوسف محمد رشدان
لا فض فوك
عدد الردود 0
بواسطة:
أسامة عزالدين
سلم لسانك وقلمك
الله عليك ... زادك الله علمًا وزدانا بك رؤية .
عدد الردود 0
بواسطة:
مدرس بالمدرسة الفندقية بالمنيا
السيد الوزير المحترم