فى مقال الأسبوع الماضى تحدثت عن نفحات الله، ومنها تلك الأيام العشر الأول من ذى الحجة، وحاولت بيان بعض فضلها ومدى عِظَم العمل الصالح فيها، فهى أفضل أيام الدنيا، كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الأيام العشر لا تستوى كلها فى الفضل فقد خصص النبى منها يومان يوم عرفة ويوم النحر. أما يوم عرفة ففضائله مشهورة معلومة والتى لا يتسع المقال لذكرها، تلك الفضائل التى كانت كافية لأن نجزم بعدها أن أعظم يوم عند الله هو يوم عرفة، لولا أن النبى صلى الله عليه وسلم أخبر بشىء آخر «أعظم الأيام عند الله يوم النحر» يوم النحر هو الأعظم على الإطلاق، يوم الأضحى العاشر من ذى الحجة هو الذى حظى بذلك التفضيل الذى لم يقله النبى عن يوم عرفة أو يوم عاشوراء أو حتى ليلة القدر، لطالما سألت نفسى حين أتذكر هذا الحديث لماذا هو الأعظم؟ هل لأنه يوم الحج الأكبر الذى فيه أكثر مناسك الحج من ذكر الله عند المشعر الحرام ورمى للجمرة الكبرى وإهداء للهدى وطواف إفاضة وسعى؟ أم لأنه يوم بر وإطعام وصدقات وصلة أرحام؟ هل لأنه خاتمة أفضل أيام الدنيا أيام العشر الأول من ذى الحجة؟
كل ذلك وغيره ربما يكون من العلل المنطقية لفضل هذا اليوم العظيم لكننى أرى أن أوقع الأسباب مرتبط بمسمى اليوم نفسه النحر.. ذلك العمل الذى يميز هذا اليوم بلا منازع والذى ما تقرب أحد إلى الله بشىء فى ذلك اليوم مثلما تقرب بهذه العبادة. إن قضية النحر ليست فقط فى النسك وإراقة الدم قربانا لرب العالمين، وهى كبيرة إلا على الطائعين المستسلمين، ولنا فى بنى إسرائيل العبرة حين أمروا بذلك فماطلوا وجادلوا ثم ذبحوها وما كادوا يفعلون!! لكن المعنى الأهم والقيمة الأخطر تقع فى رمزية الفعل نفسه ولا تُتبين إلا عند إرجاعه إلى أصله الذى بدأت به تلك السنة وشرعت به هذه الشعيرة، إنها التضحية، تلك القيمة التى بدأ بها الأمر كله. حين أقدم الخليل إبراهيم على تلك التضحية بولده الذى طالما انتظره، وها هو قد بلغ معه السعى واشتد عوده وآن الوقت ليكون له سندا وعونا فإذا به يؤمر بذبحه، هذا المشهد الذى يحمل أسرارا عميقة ومشاعر يعجز القلم عن وصفها تلخصه كلمة واحدة، التضحية.. تضحية ربما لم يعرف العالم مثلها، قد يجوع المرء ليشبع ولده ويتحمل البرد ليدفئ ابنه، وقد يحرم نفسه من اللذة والمتاع ليهنأ فلذة كبده، أما والد يقدم على ذبح ولده امتثالا لأمر مولاه ودون لحظة تردد!! إن هذا لشىء عجاب. وبيده هو وليس بيد غيره ورغم ذلك يقبل ويقبل الولد، وكأنما يقولان للعالم بلسان الحال: لا نقدم شيئا على تعظيمنا لله لا شىء يقف بيننا وبين مراد الله، إنه ذلك المعنى الذى لا يستقر إلا فى قلب المعظم، معنى التضحية لذا أجدنى أميل إلى أن هذا السبب أن اليوم هو الأعظم لأنه يوم التعظيم، يوم الإعلان والصدع بهذه القيمة، إنه لا شىء ولا شخص ولا محبوب ولا مرغوب ولا مرجو أعظم فى قلب المضحى من الله، وأنه على استعداد لأن يضحى بكل شىء فى سبيل رضاه، لهذا استحق يوم التعظيم أن يكون هو الأعظم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة