أحببت الكاتب الصحفى الشهير المرحوم عبد الوهاب مطاوع حبًا كبيرًا، ووجدت نفسى تألفه وكأنها تعرفه منذ سنوات طويلة، رغم أننى لم ألتقه أبدًا طوال حياتى، ولكنى عرفته عبر كتاباته وبابه الشهير «بريد الجمعة».. كنت أجد نفسى فى هذا الباب وأطلب من تلاميذى أن يقرأوه بانتظام،. وأرسل لزوجتى صفحة البريد ومعها تعليق منى فى صفحات مستقلة على كل مشكلة، فقد كنت وما زلت شغوفًا بالطب النفسى، خاصة الاهتمام بالإنسان عامة، وكنت مغرمًا بطريقة عبد الوهاب مطاوع فى اهتماماته الاجتماعية، ومساعدة المستشفيات والمرضى، وحل مشاكل الفقراء واليتامى، وكنت دومًا أقارن بين طريقته وطريقة المرحومين مصطفى وعلى أمين، وكنت أقول إن تجربة الشقيقين فى صنع الخير أكثر رسوخًا لأنها تعتمد على العمل المؤسسى الذى لا يموت بموت صاحبه.
وقد سعدت بقراءة كتاب «رحلات الأعلام إلى البلد الحرام» للمفكر الموسوعى محمد عبد الشافى القوصى الذى كان من تلاميذ المرحوم عبدالوهاب مطاوع، ومن محبيه الكبار، وقد عرض فيه ذكريات مطاوع عن رحلة الحج التى رافقه فيها أستاذه وشيخه الصحفى العملاق الموسوعى المرحوم أحمد بهجت الذى أسماه مطاوع «الطائف القديم»، حيث حج واعتمر قبله عدة مرات فكان له قائدًا ومعلمًا فى الحج، كما كان أستاذًا له فى الصحافة .
ورغم صرامة عبدالوهاب مطاوع التى عرف بها، وقدرته الفائقة على تحكمه فى مشاعره وعواطفه، لكنه بمجرد وقوع عينه على الكعبة المشرفة إذ بالدموع تنهمر منه بغزارة، وقد قال مطاوع عن ذلك: هذه أول مرة فى حياتى أذرف فيها الدموع ولا أتمالك نفسى، وجثوت على قدمى، وخررت ساجدًا لله.
لقد كان مطاوع كما قال عن نفسه «واحدًا من ضحايا عشق الأماكن، وكانت مشاعره تتوزع على أماكن كثيرة فى الكرة الأرضية، ويشعر تجاه كل منهما بالشوق والحنين، لكن جوار الكعبة المشرفة لا يعدله جوار، والرحاب الطاهرة فى جوار الحرم المدنى الشريف هى قرة عينى».
لقد تأخر مطاوع بعض الوقت حتى سافر للحج، وحينما لبس ملابس الإحرام فى بيته قال لنفسه: «يا إلهى كيف أجرؤ على الخروج أمام الآخرين وأنا شبه عار هكذا وفى برد الشتاء، وأنا من يتحرج الخروج من بيته حتى فى الصيف الحار بالقميص والبنطلون، ولكنى اليوم لا يعنينى مظهر ولا ملبس ولا وظيفة، إنما يعنينى فقط أن يتقبلنى من أهاجر إليه».
«قطعتان من القماش الأبيض غير المخيط هما كل ما سوف ترتديه لتعود إلى فطرتك التى فطرك الله عليها، وتتخلى عن كل متاع الدنيا، أملاً أن يتقبلك ربك فى رحابه».. هكذا يقول مطاوع لنفسه، ثم يردف مناجيًا ربه: «رب إنى قد خلعت ردائى وهجرت أهلى وعملى ورغائب الدنيا وجئت إليك باكيًا مستشفعًا فتقبلنى فى عبادك الصالحين».
وبعد أن شرع مطاوع وأستاذه بهجت فى التلبية إذ به يشعر أن كل ما كان بينه وبين عالمه القديم قد انقطع فى هذه اللحظة، فلم يعد زوجًا ولا أبًا ولا ابنًا ولا صحفيًا ولا كاتبًا ولا صديقًا لأحد، إنما إنسان خائف من ربه تلقى نداءً سماويًا بالسفر فأجاب النداء، واجفًا هاتفًا بقلبه: «يا ويلتى إن ضاقت عنى أو سُدت فى وجهى أبواب رحمة الله».
وكلما تحرك مطاوع وبهجت برداء الإحرام الأبيض إذ بالجميع يرحب بهما ويبتسم لهما وهو يعجب لذلك، نحن شبه عرايا، ورغم ذلك نقابل فى كل مكان بهذه البسمات والترحيبات.. إنه سر جديد من أسرار الإحرام لم يدركه مطاوع إلا وقتها.
وحينما طاف حول الكعبة أخذ يردد الدعاء الأثير «رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم»، وتفكر مطاوع مليًا فى هذا الدعاء، فقال: «لقد فات وقت الإنكار، والجميع هنا يقرون بذنوبهم التى يعلم عنها ربهم أكثر مما يعلمون هم عنها، فهل للإنسان فى مثل هذه الحالة إلا الأمل فى أن يتجاوز عما يعلم؟».
لقد شعر مطاوع وهو يعاين الكعبة لأول مرة فى حياته أنه «مثل لص ضبط متلبسًا بذنوبه كلها على مدى حياته، فلم يعد يجدى معه الإنكار أو ادعاء البراءة، ولم يعد له أمل سوى الرحمة وتخفيف العقاب، فهتف باطنه مستشفعًا عند ربه».
لقد أسمى عبد الوهاب مطاوع رحلته إلى الحج «هوى القلوب»، فقد جعل الذهاب إلى الحرمين أكبر من الفريضة.. إنه الهوى والحب والعشق للمسجد الحرام والمسجد النبوى وعرفات.. لقد عشق مطاوع الكعبة وعرفات ومنى والمسجد الحرام والمسجد النبوى وقبر الرسول وأبى بكر وعمر.. إنه العشق والحب لله سبحانه، وهو المحبوب الأعظم، وللنبى الكريم صلى الله عليه وسلم الذى بلّغ رسالة ربه، وللرسالة الخاتمة، ولكل أنبياء الله، ولأبى الأنبياء العظيم سيدنا إبراهيم، قائد الموحدين، ولأسرته الكريمة، خاصة هاجر وإسماعيل عليهما السلام.. رحم الله عبدالوهاب مطاوع، وأحمد بهجت، وكل من أعطى الكلمة حقها، وسخرها فى الحق وللحق ولخدمة الإسلام والأوطان، ولم يجعلها بابًا للنفاق والرياء والكسب الحرام.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد
حدائق حلوان