واجب عليك أن تتحسس مكامن الخوف بداخلك وأنت ترى بعضا من أهل هذا المجتمع المفترض فيهم أنهم صفوته ونخبته وقد أربكوا قائمة أولويات الوطن، جعلوا من رأسها ذيلا ومن ذيلها رأسا، وقدموا التافه على الجد، واهتموا بالمثير للجدل والنكات على حساب المثير للاهتمام والبحث والدراسة والملاحقة والتحقيق والعلاج.
فى الأيام الثلاثة الأخيرة انشغل المصريون بما لا يجب أن يشغلهم، وأهملوا ما كان يجب أن يهتموا به، اجتهد أهل نخبة الوطن فى الإعلام والسياسة وأهل نخبة مواقع التواصل الاجتماعى من نشطاء سياسيين ومشاهير اللايك والشير فى إثارة المعارك حول صغائر الأمور بينما كبائرها لم تجد لديهم متسع من الوقت.
راجع دفتر معارك الساحة السياسية والإعلامية والفيسبوكية خلال الأيام السابقة وستكتشف أن أحدهم ضرب قائمة أولويات هذا الوطن فى مقتل.. انظر وراقب.
- فى منتصف أول أيام عيد الأضحى المبارك انتشرت عدة صورة من صلاة العيد ظهر فيها صفوف لبعض المصلين يتجاور فيها النساء والرجال، انقلبت الدنيا رأسا على عقب، انهالت التعليقات، بعضها يسخر وبعضها يتعجب، وبعضها يكفر، وبعضها ينقل فتاوى عجائبية، وانضم الشيوخ إلى المعركة بفتاوى مضادة، وتحرك كل طرف سياسى لاستغلال الصورة وتوظيفها لخدمة مصالحه، فبدأ الإخوان حملة تروج إلى أن هذه الصورة إعلان بنهاية الإسلام داخل مصر، وأن دين الله يضيع فى أرض المحروسة بسبب رحيل محمد مرسى، ثم بدأوا فى تناقل بعض الفتاوى المنتقاة التى تحرم هذه الصلاة وتجعلها باطلة، ثم انتقلوا إلى مرحلة أكثر جنونا حينما كتبوا على مواقعهم يقولون إن الأوقاف فتحت ساحات الصلاة على البحرى لانتهاك حرمة الدين الإسلامى عمدا، وأن صلاة العيد فسدت فرحتها لأن الإخوان توقفوا عن تنظيمها، لم يشر الإخوان فى بياناتهم وتقاريرهم من بعيد أو قريب إلى مسؤوليتهم كجماعة قدمت نفسها دعوية وناشرة لتعاليم الإسلام إلى مسؤوليتهم فى التخلى عن هذا الدور التوعوى والتعليمى من أجل السلطة، هم فقط أرادوا استثمار الصورة للإيحاء وكأن دولة 30 يونيو تعادى الإسلام ولكنهم فيما يريدون ترويجه خائبون لأن عشرات مثل هذه الصورة لمصلين رجال ونساء فى صلاة العيد ظهرت أثناء حكم مرسى، ثم إن الإخوان أنفسهم أباحوا صلاة الرجال والنساء داخل قاعة انتخابات نقابة المهندسين خوفا من أن يتركوا مقاعدهم للمعارضين.
الأزمة هنا أكبر من استغلال الإخوان السياسى للصورة، الأزمة أن أحدا من الغاضبين من هذه الصورة لم ينتبه إلى ما هو أخطر، لم ينتبه إلى أن الخوف الذى يروجه من تحرش الرجال بالنساء فى المساجد أو إثارتهم هو فى حد ذاته إهانة للمساجد والمصلين، حتى الشيوخ الذين سارعوا بتحريم هذه الصلاة انغلقوا وتطرفوا ولم يفتحوا عقولهم على الخيارات المتعددة التى منحها الفقهاء، الشيوخ بعضهم أفتى بعدم جواز تلك الصلاة، رغم أن فتاوى أخرى تؤكد أن صلاة الرجل خلف أو بجانب المرأة لها حالات: الحالة الأولى: أن يكونا خلف إمام واحد فجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة أنها لا تفسد الصلاة، ولكنها تكره، وذهب أبو حنيفة إلى فساد صلاة من بجنبها ومن يحاذيها من ورائها. الحالة الثانية: أن يكون كل واحد يصلى لحاله فالصلاة صحيحة فى هذه الحالة.
لماذا تضخم هذا الأمر وشغل كل هذا الحيز من فراغ المجتمع، وتخيل معى لو أن السياسيين ونشطاء فيسبوك وتويتر كانوا قد بذلوا نصف جهدهم المبذول فى السخرية من هذه الصورة والجدل حولها فى الضغط لحل أزمة مجتمعية أكبر، وتخيل لو أن الشيوخ الذين اجتهدوا وتسابقوا للبحث عن فتاوى إبطال هذه الصلاة وتحريمها كانوا قد بذلوا ربع جهدهم فى تجديد الخطاب الدينى وتحسين مستوى الخطباء، ألم يكن ذلك ليرحمنا من التطرف الداعشى ويحمى أولادنا من خطط تجنيدهم عبيدا للفكر المتطرف.
- الصورة التانية التى شغلت الناس كانت صورة للداعية عمرو خالد وهو يؤدى شعائر الحج وتحديدا فى مرحلة رمى الجمرات بعد حادث التدافع الذى راح ضحيته أكثر من 700 حاج، الصورة التى انتشرت أظهرت عمرو خالد فى مكان غير مزدحم وبدأ بعض الكتاب ينشرون مقالات عن الحج «vip»، واستنكروا على الدعاية أن يدفع نفقات باهظة للحصول على حج يرونه أكثر رفاهية، ولا أعرف ما الذى يضر مصر إن اختار عمرو خالد أو غيره حجا أكثر تكلفة طالما أنه يستطيع ذلك، والمشكلة ليست هنا، المشكلة أن الصورة التى نشرها البعض للداعية الإسلامى وقال إنها صور خاصة للأغنياء والشخصيات الكبرى ظهر زيفها بعد مرور ساعات، بعدما ظهرت صور من نفس المكان لعائلات وأسر وهم يؤدون الفريضة فى نفس المكان دون أن يكون مخصصا للأغنياء أو غيرهم.
مشكلة عمرو خالد لم تكن هنا بل كانت فى إصرار الداعية الذى طالما نصحنا فى دروسه وكلمنا عن الخشوع والخضوع فى الحج والتحلل من كل ما يعلق بالوجدان من أمور الدنيا، ظهر فى ثوب مختلف هذه المرة مهتما بأن ينشر العديد من صوره أثناء تأدية المناسك ومهتما بصناعة العديد من الفيديوهات وكأنه يريد استغلال موسم الحج لكى يقول للناس أنا مازلت هنا..
- القضية الأكثر جدلا كانت الصورة الخاصة بوزيرة التضامن الاجتماعى غادة والى خلال حضورها جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة وأثناء كلمة الرئيس، وظهرت فى المشهد وهى تأخذ لنفسها صورة سلفى وتؤدى الحركة النسائية الشهيرة باسم «بوز البطة».
هذه الصورة احتلت مساحات من النقاش والجدل فى الصحف والمواقع والفضائيات، وكأن جميع أزمات مصر قد انتهت، أو كأننا نعيش فى سويسرا أو كأن الوزيرة قد ارتكبت الجريمة الكاملة، بعضهم استخدم الصورة للإيحاء بأن الوزيرة لا تهتم بكلمة الوزير، وبعضهم كتب مقالات وتقارير وخصص جزءا من حلقات تلفزيونية للحديث عما فعلته الوزيرة وكأنها جريمة سببت تشويه صورة مصر وتدمير هيبتها، والنشطاء حولوا الصورة إلى وسيلة للسخرية، رغم أن هؤلاء الذين سخروا والذين انتقدوا غادة والى هم أنفسهم الذين صدعونا طوال السنوات الماضية كلما ظهرت صورة لسياسية أوروبية أو أمريكية وهى ترتكب أفعالا مماثلة بتعليقات مثل «شوفت البساطة، شوفت العفوية، شوف الجمال.. المرأة لا تنسى أنوثتها أبدا رغم السياسة»، لكنها عقدة الخواجة يا سيدى، حينما تفعلها رئيس وزراء الدنمارك هى وأوباما وديفيد كاميرون فى حدث سياسى جنائزى عالمى مثل جنازة مانديلا يقولون إنها تعبير عن البساطة لكن حينما تفعلها غادة والى يصبح فى الأمر جريمة أو مادة للسخرية، وتتحول البوصلة من اتجاه تقييم أداء الوزيرة فى فعاليات حدث مهم إلى السخرية من سلوكه الإنسانى الطبيعى.
كل ما سبق نشر الكثير عنه فى الصحافة والتليفزيون وشغل مساحات واسعة من الجدل على صفحات فيسبوك وتويتر، ولكن القضية الأهم، والكارثة الأكبر التى حدثت فى نفس زمن وقوع الأحداث السابقة لم تحظ بأى اهتمام، لم ينشر سوى خبر وحيد عن الفتاة المصرية التى تعرضت لتحرش جماعى وضرب جماعى فى عز الضهر فوق كوبرى عباس، لم تحظ تلك الكارثة باهتمام نشطاء الفيسبوك وتويتر، ولم ينظم أحدهم حملة ضد التحرش كما نظموا حملات ضد صلاة الرجال والنساء متجاورين وضد عمرو خالد وضد غادة والى، لم يصرخ أحدهم من الوجع مثلما صرخوا من الضحك وإلقاء النكت على الأحداث السابقة، لم يظهر لنا شيخ من الذين لم يصمتوا أبدا ليفتى لنا بجريمة التحرش، لم يبك شيخ على الإسلام ولا أعراض النساء مثلما بكوا وهم يتحدثون عن تجاور الرجال والنساء فى صلاة العيد.
بالبلدى كده «شوفت حضرتك أولوياتنا بقت عاملة إزاى.. شوفت حضرتك إحنا بنعمل فى نفسنا إيه.. ولا حاجة تتقال غير إن ربنا يكفينا شر شهوة اللايك والشير والإفيه والتفاهة».
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
Gamal
على العكس
عدد الردود 0
بواسطة:
نسرين موسى
تسلم ايدك
موضوع اكثر من رائع
عدد الردود 0
بواسطة:
Mahmoud محمود
للأسف الشديد .. كلامك صح
عدد الردود 0
بواسطة:
د معتز سيف
ناس وصلوا متأخرين
عدد الردود 0
بواسطة:
صفوت الكاشف*
/////// أنها النميمة المجتمعية GOSSIP تلك التى يفردون لها الصفحات ///////