عرفتها منذ ما يقرب من عشرين عامًا، كنت قد تخرجت لتوى من كلية الإعلام ومن حسن حظى أننى قابلتها وأن أكرمنى الله بمعرفتها فى بداية عملى الصحفى، كانت رئيسًا لقسم التحقيقات بجريدة الأحرار وكنت فى بداية عملى الصحفى أتطلع للعمل بهذا القسم وأحلم بتحقيق النجاح فى هذه المهنة، استقبلتنى كما فعلت مع الكثيرين غيرى من تلامذتها الذين تدربوا وتعلموا وعملوا معها بوجه بشوش وخبرة من يستطيع التمييز بين الغث والثمين، فبمجرد أن تكتشف موهبة وخامة صحفية طيبة تشعر بالفرح وكأنها عثرت على قطعة مجوهرات ثمينة تخاف عليها وتدعمها وتثقلها بكل ما أوتيت من قوة وخبرة، شعلة نشاط وضمير حى ينبض مع كل حرف تخطه يدها.
"ن والقلم ومايسطرون" تلك الآية التى تقرأها الكاتبة الصحفية نجوى طنطاوى على كل من يتدرب على يديها لتبين له عظمة القلم الذى يمسكه بيده ويخط به كلمات قد تظهر حقًا أو تنصف مظلومًا أو تكون صوتًا لمن لا صوت له، فما أعظم أن يقسم الله فى كتابه العزيز بالقلم وأن يكون القلم هو أمانة الصحفى وأداته لأداء عمله، فأى أمانة يحملها من يمسك قلما؟! كان هذا هو الدرس الأول الذى تعلمناه من هذه المرأة التى تعلم منها الكثيرون ويدينون لها بالفضل، والتى تنبض عشقًا وغيرة على هذه المهنة "الصحافة"، فتغضب حين ترى دخيلا على المهنة أو من يخلط الإعلان بالتحرير، أو من يبيع ضميره أو يتخطى قواعد ميثاق الشرف الصحفى، فلم أر نجوى طنطاوى تشعر بالغيرة قط إلا على الصحافة "مهنة القلم".
ورغم كونها كانت رئيسًا لقسم التحقيقات فى جريدة الأحرار ثم جريدة الأسبوع ثم نائبًا لرئيس التحرير ومسئولة عن قطاع التدريب بالجريدة ثم عضوًا بالمجلس الأعلى للصحافة إلا أنها تعمل دائمًا بروح الصحفى المغامر المكتشف الذى ينقل معاناة البسطاء والمستضعفين فى كل مكان، عاشت يومًا مع بنات الترحيلة اللاتى يعملن فى الجبال والمزارع النائية ويتعرضن لما لا تعلم عنه جمعيات حقوق المرأة شيئًا من اغتصاب وانتهاك وظروف عمل تشبه ما عرضه فيلم الحرام لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، ونقلت معاناة عمال "القيسون" الذين يزرعون الحياة ويحصدون الموت والعجز وهم يحفرون الآبار فى ظروف غير آدمية ويتعرضون للموت وبتر الأطراف ويروون الأرض بدمائهم، وتتبعت فى حملات صحفية كيف تروى المزروعات من الخضراوات والفاكهة بمياه الصرف الصحى، وغيرها الكثير والكثير من التحقيقات التى تنقل آلام الضعفاء وتسلط الضوء على المنسيين والمهمشين، وبنفس القوة طاردت رموز الفساد فى الكثير من القطاعات وحصلت على العديد من جوائز التفوق الصحفى، لا تبالى بالجهد والوقت الذى تبذله لأداء رسالتها وكأنها جندى يحمل سلاحًا ويأبى أن يتركه.
علمتنا أن الصحافة رسالة وأننا نملك ما لا يملكه غيرنا وأننا سنحاسب إذا لم نستخدم ما نملك فى خدمة من لا يملك صوتًا ولا قلمًا.
كثيرًا ما رأيت دموع هذه المرأة القوية تأثرًا بحالات إنسانية تبذل كل جهدها لمساعدتها تجرى بأوراق مرضى لا تربطهم بها أى صلة ممن يحتاجون علاجًا يخفف آلامهم ولا يجدونه فى بلد يضن على الفقراء بالدواء، وتجرى عشرات المكالمات لتوفر كرسيًا متحركًا لعاجز أو مكان فى مستشفى لمريض فقير.
رفضت نجوى طنطاوى الكثير من الإغراءات التى لا تتناسب مع قناعاتها، ولم تسع يومًا إلى منصب أو مال ولم تندم يومًا على أى منهما، تفخر وتفرح دائمًا كلما حقق أى من تلامذتها نجاحًا أو مركزًا مرموقًا فى مؤسسة إعلامية، ولا تخل معظم المؤسسات الإعلامية ممن تعلموا على يديها أو قدمت لهم يومًا يد العون، تفرغت مؤخرًا لأداء رسالتها ونقلها لشباب الصحفيين وطلاب كليات الإعلام وأقسام الصحافة وتدريبهم ليستمر فيض عطائها عبر أجيال متتالية.
مر أمامى شريط ذكريات بدأت منذ 20 عامًا فى الوقت الذى تمر فيه الأستاذة والكاتبة الصحفية نجوى طنطاوى بوعكة صحية أدعو الله ويدعو معى كل من عرفها أو تعامل معها أن يشفيها لتعود من جديد صوتًا لمن لا صوت لهم وسندًا وعونًا لمن لا عون لهم وأستاذة يتعلم منها الكثيرون ممن يحلمون بالنجاح فى بلاط صاحبة الجلالة ما يبخل غيرها عن تقديمه.. نجوى طنطاوى.. شكرا شفاك الله وعافاك.