فى غرفة أشبه بالقبر، ليس فيها هواء ولا ضياء، ولا تدخلها الشمس، ويصدق عليها وصف عوام المصريين «تحت بير السلم»، عاشت أم بكار جزءاً كبيراً من حياتها، لم تضجر لغياب كل أسس الحياة الكريمة والإنسانية عن حجرتها، فضلاً عن حياتها.. ولم تضجر لأن غرفتها الضيقة ليست فيها دورة مياه.. وكلما احتاجت لقضاء حاجتها ولو فى منتصف الليل تذهب إلى صاحبة البيت فى الدور العلوى، لتقضى حاجتها فترحب بها صاحبة البيت فى الليل أو النهار، فى سابقة فريدة لا يمكن تكرارها إلا فى مثل هذه الأحياء البسيطة التى تتعايش وتتكافل بالحب وعلى الحب. فقد أعطى صاحب البيت هذه الغرفة البسيطة هدية لأم بكار دون مقابل كما كان يحدث من قبل فى الأحياء الفقيرة فى مصر.. كانت أم بكار تشكر ربها على أن وجدت غرفة تأويها. دائماً ما تصف معيشتها فى غرفتها البسيطة بالستر قائلة: «بأن غرفتها تسترها وتداريها.. وكأنها تعيش فى قصر منيف.. أما البطانية التى تتغطى بها فلا يقبل أى سجين أن يتغطى بها فهى من القرون الوسطى التى تنقل كل الأمراض ولكن قلبها قبل لسانها يلهج بنعمة الستر ويهتف بالرضا عن الله وقدر الله فلا يتسخط أبدا».
هذه لقطات من حياة «أم بكار» تلك المرأة المصرية النادرة التى ولدت سنة 1905 وجاوزت الآن 109 سنة، كلها كفاح فى كفاح، وشقاء يتخلله شقاء، فلم تذق طعم الراحة أو الدعة أو السكينة يوماً. تزوجت أم بكار وهى صغيرة وأنجبت ثمانية من البنين والبنات.. مات أربعة منهم وعاش أربعة.. اثنان ماتوا بالكوليرا، مضت الحياة وهى سعيدة بأولادها الأربعة.. طلقها زوجها الذى لا يعرف من الدين والإسلام إلا إباحة التعدد.. لم تجد أم بكار بداً من الخروج للعمل للإنفاق على الأولاد.. فالأم أكثر وفاءً لأولادها وتحملاً لأعبائهم من الأب. تخرج كل يوم مبكراً تبيع البيض والجبن والثوم وما شابههم.. لتطعم أولادها.. لم تستطع أن تعلمهم.. ذهب كل منهم إلى مهنة أو صنعة كما يقول المصريون.. أصبح أحدهم حداداً والثانى والثالث نجارين.. أما الرابعة فتزوجت كشأن الفقراء واليتامى من أهل الريف. اشترت 30 متراً فى قريتها النائية من قرى الفيوم الفقيرة جداً وبنت لأولادها سكناً متواضعاً وزوجتهم جميعاً. لم تجد من أحدهم حناناً أو رداً للجميل، عزمت على أن تعتمد على نفسها. تركت لهم المنزل حتى لا تضايقهم.. وعاشت فى غرفتها المظلمة تحت بئر السلم.
امرأة تعمل وهى فى الثمانين ثم التسعين ثم المائة ثم ما جاوزت المائة.. ما هذه الهمة يا أم بكار!.. ما هذه العزمات فى الإيمان والحياة والعمل!.. إنها ترفض أن تمد يدها أو تتسول لدى الناس.. وهذا درس للشباب والبنات الذين يقابلوننا فى الميادين ومفترق الطرق يتسولون الناس مباشرة ولا يرغبون فى العمل.
كانت تلح طوال حديثها مع المذيع الرائع عمرو الليثى على شىء واحد تطلبه من ربها وترجو الليثى أن يتحقق على يديه «يا ربى نولنى الحج يارب.. سايقه حبيبك النبى يارب»، رغم كل البؤس والعوز الذى تعيشه هى تتوق إلى الله، وتصبو إلى كعبته المشرفة وبيته الحرام وزيارة نبيه الكريم.. كلما سألها الليثى عن سؤال قدمت الدعاء له قبل أن تجيب.. ما هذا الأدب يا أم بكار؟! ومن أين أتيت به؟! وما هذا الحب الجارف للناس.. كلما تحركت مع الليثى أرادت أن تعانقه شاكرة. آه يا أم بكار.. لقد فهمنا الدرس منك: الإيمان سينتصر فى القلوب لا محالة.. لن تستطيع قوة إلحاد أو تجهيل أو علمنة أو تكفير أن تغير قلوب البسطاء من هذه الأمة، «إنهم كعجائز نيسابور» يفهمون الدين أكثر من فهم هؤلاء جميعاً. هكذا قدم المذيع المبدع عمرو الليثى هذه الحالة الإنسانية المصرية الثرية.. لك الله يا أم بكار.. لقد أبكيت قلوبنا وجعلتينا صغاراً أمام أنفسنا.