يعود الناس إلى ولاءاتهم الأولية حين لا يجدون جامعًا شاملًا يوحدهم، والعودة للولاءات الأولية تعنى العودة للعصبيات والقبليات الاجتماعية، وهى شائعة فى الصعيد أكثر منها فى الوجه البحرى والدلتا ومدن القناة، كما أنها شائعة فى المناطق الحدودية فى شمال سيناء وفى مطروح، حيث يوجد البدو والقبائل. وقد كان عجز الدولة القومية وهزيمتها بداية البحث عن بديل فى الإحياء الإسلامى الذى صعد فى السبعينيات، وبدلًا من أن يطعم الإسلاميون الدولة بمرجعية فقد أرادوا أن يقيموا هم دولتهم، وقد كانت الخلافة الإسلامية هى الحلم الذى يستعيد ما تصور الإحيائيون أنه عنوان لمجدهم وهويتهم. وقد عمدت دولة مبارك مع تجفيفها لمنابع السياسة وتحويلها لدولة المحاسيب، والعزل الاجتماعى، وتزاوج الثروة والسلطة، وسيادة مفهوم أن الدولة هى دولة من يملكون ويستحوذون على مقاليد الثروة والسلطة، وشاعت ظواهر المهمشين، وسكان المناطق العشوائية، وغابت فكرة القانون بالكامل لتكون قوانين الفئات الاجتماعية التى تصنع كل منها قانونها.
مفهوم الدولة تعرض للاهتزاز بقوة، حتى فكر مبارك فى أن يورث ابنه السلطة، وكأنها شىء شخصى، ونسى أن تقاليد الجمهورية عميقة فى مصر، وأن الملكية والتوريث لا يمكن قبولهما.. المهم أن فكرة أن الدولة والقانون معنيان مستقلان عن شخص من يقوم بتمثيل الدولة أو تطبيق القانون وتنفيذه، شخصنة الدولة بمعنى محق المسافة بين شخص من يمثلها وبين معناها المعنوى المتجاوز له، يعنى العودة لفكرة الفئات الاجتماعية، وقوانينها الشخصية المعبرة عن رؤاها وامتيازاتها ومصالحها من منظورها، وليس من منظور الالتزام بقانون مجاوز لها.
مع تراجع السياسة وعودة مفاهيم ما قبل الدولة الحديثة التى كانت سائدة فى الإقطاعيات الأوروبية، فتح شياطين إدارة ملفات استقرار الوضع القائم الباب واسعًا لكى يذهب المواطنون إلى الدين الشكلى الذى يهتم بالمظهر، ويقدم وعودًا سهلة لا تكلف سوى لحظات للولوج إلى أبواب الجنة، وهنا اندفع الناس فى الريف والدلتا وفى الصعيد إلى الدين بديلًا عن السياسة، وهنا جرى توظيف الدين لتغييب الناس، وأخذهم إلى عوالم بعيدة عن الاهتمام بالسياسة والشأن العام، والنظر إلى الحياة باعتبارها جميعًا فعلًا دينيًا تنظمه قواعد الحلال والحرام، بينما غاب مفهوم المباح والاجتهاد والمقاصد، ومفهوم التدين كفعل إنسانى يوازن بين الأحكام الشرعية والحياة المعاشة. وحين قامت ثورة يناير رفعت شعارات الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، بينما خرج الناس فى يونيو ضد توظيف الدين فى الحياة السياسية، وفرض فهم للدين يقلص من فرص الناس فى اختيار أنماط حياتهم بعيدا عن القسر والإكراه والفرض.العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية التى تساوى بين البشر كمواطنين فى دولة لها قانون يطبق على الجميع بلا استثناء ولا تمييز، والحرية التى تعنى حق الناس فى اختيار حياتهم التى يريدون بلا فرض ولا قسر ولا رفع لشعارات التكفير والتفسيق والولاء والبراء التى تصنف الناس وفق مفاهيم من يرفعونها.
الدولة الجديدة المصرية هى الوعاء الجامع لكل المصريين، يجب أن نعيد الاعتبار إليها، ونقوى وجودها، بشرط أن تكون تعبيرًا عن كل مواطنيها بلا استثناء وبلا تمييز، وأن يكون القانون هو الميزان الذى يطبق على كل مواطنيها.. شعرت باهتزاز حقيقى لمفهوم الدولة التى نريد حين طالب وزير التعليم باستثناءات لأبناء الضباط والقضاة حتى يكون الآباء مستريحى البال على أبنائهم وهم يمارسون مهامهم الحامية للأمن القومى، هذه كارثة يتحدث عنها وزير التعليم العالى فى المجلس الأعلى للجامعات، ويوافقه الأعضاء جميعًا.
لا يمكن للدولة المصرية أن تكون تعبيرا عن العودة لتقاليد دولة مبارك البالية التى تصنف الناس وفقًا لأوضاعهم الاجتماعية، أو وفقًا لمعايير مدعاة تمنح الوطنية للبعض، بينما تنزعها عن الآخرين.. الدولة الجديدة هى دولة كل المصريين ملتزمة بالقانون.. ممثلو الدولة مختارون من المواطنين ويمثلونهم لدى الدولة لكى يقوموا على خدمتهم، والقانون هو الحكم، حين تتعرض تقاليد الدولة للعدوان فإننا نفتح الباب واسعا لخروج الناس التى الشارع لكى يستعيدوا تفويضهم الذى منحوه لممثلى الدولة كما يحدث الآن فى العراق ولبنان، وقد عبرت عنه جماهير المواطنين فى الربيع العربى.