يبقى الفنان بأعماله الفنية، لكن يتألق هذا البقاء، ويترك بصمته المؤثرة حين تقترن هذه الأعمال بمواقف وطنية عظيمة، تقاوم السلطة الفاسدة والمستبدة، تنحاز لقيم الخير والحق والجمال، هكذا كان حال الفنان الرائع الراحل حمدى أحمد الذى جمع بين الموهبة والموقف الوطنى فسكن القلوب دون استئذان.
فى عام 1979 كان حمدى أحمد يبلغ من العمر 45 عامًا، وكان الرئيس السادات يختار طريقه نحو السلام مع إسرائيل، كان السادات يكسر الثوابت الوطنية والقومية فى التعامل مع الصراع العربى الصهيونى، وكان حمدى أحمد نجمًا يقيم فى قلوبنا بدور «محجوب عبدالدايم» فى فيلم «القاهرة 30»، و«محمد أفندى» فى فيلم «الأرض»، كانت موهبته فى عنفوانها، فالعمر 45 عامًا، بما يعنى خصوبة فى العطاء، والمرحلة العمرية التى يتناسب معها التنوع فى الأدوار الفنية، ورغم كل ذلك اختار طريقًا يعلم أنه من الممكن أن يغلق عليه باب العمل، وهذا ما حدث.
اختار فى عام 1979 أن ينحاز إلى تاريخه الوطنى، بأن يواصل ما بدأه عام 1949 حين سجنته قوات الاحتلال البريطانى وعمره 16 عامًا لمشاركته فى المظاهرات ضد الاحتلال، قرر الترشح فى انتخابات مجلس الشعب عن دائرة بولاق، ونجح ليصبح صوتًا قويًا تحت قبة البرلمان، انحاز للعدالة الاجتماعية، والقضية الفلسطينية، ورفض كامب ديفيد.
وبعد اغتيال السادات فى 6 أكتوبر 1981 واصل نفس الدور، صار معارضًا شرسًا لحكم مبارك، يتحدث بلا هوادة عن كوارث وفساد نظام سياسى بليد، أصبح ضيفًا على المؤتمرات الجماهيرية المعارضة، كان يتحدث إلى الجماهير بلهجته المحببة، وتجربته العميقة، وصوته القوى، يتحدث بوصفه ناصرى الانتماء، مؤمنًا بمشروع جمال عبدالناصر وثورة يوليو 1952، ومن وقتئذ لم يعد النظر إليه والجلوس معه بوصفه فنانًا كبيرًا ورائعًا فقط، وإنما بوصفه ثائرًا ضد الظلم والاستبداد والفساد والمحسوبية والسلام مع إسرائيل، كان يجلجل بصوته محذرًا، ومنبهًا، ومبشرًا بثورة ستأتى.. يذكر حكايات عن ابنه محمود الذى يرى فيه المستقبل، واصل هذا الدور دون كلل، ذهب إلى محافظات مصر المختلفة، فحاز وصف أنه «لف ودار» وتعفرت قدماه بتراب شوارع وحوارى وقرى مصر من شمالها إلى جنوبها، ولأنه كان أقرب فى ملامحه وطريقة حديثه إلى ملامح وطريقة حديث الفلاحين، أصبح مصدر بهجة ومصداقية فى كل مؤتمر ينزل فيه فى قرى مصر.
قبل سنوات، وفى الطريق من القاهرة إلى بنها كنت معه فى سيارته متوجهين لحضور زفاف ابنة صديقنا المشترك الراحل المناضل كامل طاحون، لم يكن لقائى به وقتئذ هو الأول، فتحت سماء السياسة والنضال والمؤتمرات تعددت اللقاءات، كما أن محافظة القليوبية مسقط رأسى كان لها نصيب كبير معه فى كل ذلك، حيث زار قرى منها، وجلس مع فلاحيها وأكل من طعامهم، وشرب من قلتهم.. أعطانا الطريق من القاهرة إلى بنها فرصة الحوار فى الفن والسياسة، واحتلت شخصية «محجوب عبدالدايم» فى فيلم «القاهرة 30»، وهو الفيلم المأخوذ بنفس الاسم عن رواية نجيب محفوظ، مجالًا واسعًا فى حديثنا، سألته عن سر إبداعه فى لعب الدور، فأحالنى إلى ضرورة الفهم الأوسع للحالة السياسية وقتها، فـ«محجوب عبدالدايم» هو فى الأصل وثيقة إدانة واتهام لزمن عاش فيه، زمن فساد ومحسوبية ورشاوى واحتلال وفساد، زمن يدفع «محجوب عبدالدايم» إلى فعل ما فعله، من الخطأ النظر إليه على أنه حالة فردية، «علشان كده أنا أديت الشخصية بتعاطف معه، أكيد كرهت فعله، لكن كره الفعل مع فهمى لخلفياته صنع هذا الأداء».
كان حمدى أحمد يتحدث عن ماضٍ يراه موجودًا فى الحاضر: «شوف دلوقتى موجود كم محجوب عبدالدايم».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة