عندما قرر أحمد أبوالغيط وزير الخارجية المصرى بين سنوات «2004-2011»، أن يدون شهادته عن المفاوضات الصعبة بين مصر ودول حوض النيل حول الاتفاقية الإطارية لدول الحوض، لم تكن القضية قد وصلت إلى ما وصلت إليه من تعقد وتشابك، ولم تكن إثيوبيا وسد النهضة هو الخطر الأكبر على أمننا المائى، ولكن ما دونه أبوالغيط فى الفصل السادس من كتابه المهم «شهادتى»، والصادر مؤخرا عن دار نهضة مصر، يكشف بوضوح الأخطاء الكبرى التى وقع فيها المسؤولون المصريون والحكومات المصرية المتعاقبة، حتى تحولت صورة مصر لدى دول حوض النيل إلى دولة تريد سرقة مياه النيل دون تقديم أى مقابل تنموى لدول القارة الفقيرة التى تحتاج بشدة إلى المساعدات والتنمية.
يلخص أبوالغيط أخطاء السياسة المصرية تجاه الدول الأفريقية، خاصة دول حوض النيل، فى أربع نقاط أساسية، ربما هى التى دفعت دول الحوض إلى توقيع الاتفاقية الإطارية لدول الحوض بالمخالفة للحقوق التاريخية لمصر والسودان، كما أنها تفسر لنا قدر التعنت الذى تمارسه إثيوبيا فى المفاوضات معها حول الشروط الفنية لسد النهضة. النقطة الأولى التى يسجلها أبوالغيط ترصد الانقطاع المصرى عن دول القارة الأفريقية خاصة دول حوض النيل، التى كانت تعول على مصر كثيرا فى مساعدتها فى جهودها التنموية، وهو الانقطاع الذى لا نعرف حتى الآن كيف نتداركه بصورة كاملة، تعيد مصر إلى أفريقيا وتعيد أفريقيا لمصر، وتخفف نبرة العداء تجاهنا.
النقطة الثانية تتعلق بطبيعة العلاقات المفترض أن نبنيها مع دول حوض النيل، فكثير من دول الحوض تريد من مصر المساعدة فى جهود التنمية، لكنها تريد أكثر بناء علاقات تجارية واقتصادية معنا، ويضرب أبوالغيط مثالا لذلك بملف استيراد اللحوم الذى تسيطر عليه مافيا فى مصر، فقد وعدنا حكومات دول الحوض الغنية بالثروة الحيوانية مثل إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا وكينيا، أن نستورد منها احتياجاتنا من اللحوم، وعرضت هذه الدول تسهيلات كثيرة على مستوى بناء المجازر والمحاجر البيطرية على أراضيها، ومع ذلك لم تنفذ الحكومات المتعاقبة التوصيات المتكررة بالتحول لاستيراد اللحوم من دول الحوض بدلا من البرازيل وأوروبا، والسبب بالطبع سيطرة مافيا اللحوم على القرار.
العلاقات السودانية مع دول حوض النيل ومغامرات البشير العسكرية داخل السودان وخارجه، والتى انتهت بانفصال جنوب السودان وتهدد بانفصال دارفور، نقطة مهمة فى توتر علاقات دول الحوض مع مصر خاصة أن الدول الأفريقية كانت تراهن على دور أكبر لمصر فى السودان بحكم العلاقات التاريخية بين البلدين، ومنع البشير من التدخل فى شؤون العديد من الدول الأفريقية، لكننا فرطنا فى الملف السودانى وتركنا لاعبين من الخارج يديرون الأمور إلى ما وصلت إليه. النقطة الرابعة والأخيرة التى يثيرها أحمد أبوالغيط، تخص علاقات مصر القوية بالجهات المانحة والممولة لمشروعات المياه فى دول حوض النيل وكذا علاقاتها بالدول العربية التى تستثمر أموالا كبيرة فى أفريقيا والدول الأوربية صاحبة العلاقات التاريخية فى القارة مثل إيطاليا وفرنسا.
ويذهب أبوالغيط إلى أن حسن استخدام مصر لعلاقاتها المتشعبة مع القوى الدولية والاستثمارية فى أفريقيا ودول الحوض يمكن أن يكون ورقة ضغط قوية حتى لا تقدم دول الحوض بعد توقيعها الاتفاقية الإطارية، على تنفيذ مشاريع مائية على النيل تضر بالحقوق التاريخية لنا، أو تقدم على ما هو أخطر، إعادة توزيع الحصص المائية لدول الحوض وتقليل حصة مصر عن 55 ونصف مليار متر مكعب التى تطالب مصر بزيادتها أصلا.