هل فاجأتنا مضايا السورية وما يحدث فيها، ولم نتوقع أو نتخيل ما رأته عيوننا فى الفيديوهات والصور التى نقلت كارثة الجوع فى هذه المنطقة بعد الحصار الذى تتعرض له، واعتبرنا أننا لم نر فى تاريخنا وحياتنا العربية مثل ذلك؟ لو قلنا هذا القول فنحن بالتأكيد نخدع أنفسنا تماما، ولا نعرف حجم تاريخنا الإجرامى القائم على أن الإنسان فى أوطاننا العربية آخر ما نفكر فيه، وأن ثقافتنا العربية قائمة على الحصار.
حدث فى مضايا السورية أن استطاع البعض أن ينشروا صورا لما يحدث هناك، لذا انتبه العالم أو تظاهر بالانتباه، ولم يجد بدا من إظهار الأسف على ما يحدث، لكن كم منطقة فى سوريا يحدث بها مثل ذلك وأكثر، والإعلام لا يعرف شيئا، وصانعو السياسة فى العالم يتمنون ألا يعرف شيئا، حتى يظلوا هم فى قصورهم لا تنغصهم صورة لجائع أو فيديو لقتيل، هى فى الحقيقة لا تنغصهم، لكن تنغص الآخرين عليهم، وتصوب الكاميرات ناحيتهم وتجعلهم يقولون شيئا هم لا يودون قوله.
كانت أعيننا من قبل تربط بين صور الموت جوعا وبين البلاد الأفريقية التى أضنتها الظروف الطبيعية وطاردها الجفاف، وكنا نطهر أنفسنا بلعن العالم الذى يقف مكتوف الأيدى لا يمد يدا لنصرة الشعوب المعذبة، ونظن أننا فى منأى عن كل ذلك، حتى اكتشفنا الفاجعة، فنحن لا نبصر أنفسنا ولا مشكلاتنا، فطوال تاريخنا ونحن مصابون بالموت جوعا، وربما المختلف والأكثر ألما أن هذه الطريقة من الموت تأتى بفعل أيدينا، فنحن صانعو الحصار سواء بالفعل أو بالتواطؤ، فسواء اعترفنا أو أنكرنا فنحن متورطون نوعا ما فى صناعة هذه الجرائم، ونحن مشعلو أزماتنا على مر العصور وحتى الآن.
والآن سوريا، العراق، اليمن، فلسطين، السودان، ليبيا وغيرها دول عربية مشتعلة والإنسان ضائع فيها بصورة أو بأخرى، بالجوع أو بالخوف أو بالقهر، والسلطات لا تبحث عن حلول، فبعضها يبحث عن تسكين وبعضها الآخر لا يبالى، بل «يفجر» بالمصيبة، ويدعى أنها من بطولاته التى سيحفظها له التاريخ، وربما يظن أنه يحسن صنعا بهذه الفعلة، وذلك يكشف عن جانب مظلم قادم، لأن المشكلات التى نعانى منها فى عالمنا العربى هى مشكلات متأصلة فى تكويننا الثقافى.
نعم الجريمة المتواترة فى التاريخ العربى هى «الحصار» من قبل حصار بنى هاشم فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم، مرورا بحصار يزيد بن معاوية للمدينة، وحصار بنى أمية لبيت الله الحرام، وغير ذلك الكثير الذى امتلأ به تاريخنا العربى والإسلامى، ما دامت هناك حرب، وهناك آخرون مختلفون فهناك بالتأكيد حصار يؤدى إلى الموت، ولن تكون مضايا هى الأخيرة كما لم تكن العراق بمدنها وناسها هى الأخيرة، وسيشاهد العالم ضيعتنا من خلف الشاشات، ويمتعض ثم يواصل طريقه.