رضا البهات الفائز بجائزة «ساويرس الثقافية» فى فرع الرواية مناصفة مع وحيد الطويلة، هو روائى وإنسان من نوع خاص، ظلت سيرته حاضرة بينى وبين صديقنا المشترك الراحل النبيل الناقد والكاتب فتحى عامر الذى ترك موته حزنا مقيما فى قلب كل من عرفه.
كانت السيرة تتكرر بسبب راوية «بشاير اليوسفى»، فمن فرط حبى لها، كنت أبحث عن هذا الرائع الذى أبدعها، وجسد بشجن بالغ مأساة نكسة 5 يونيو 1967، حتى التقينا، هو، وفتحى، وأنا.
كان رابعنا فى لقاءاتنا أحاديث ومناقشات لا تنتهى فى كل شىء، وشعور يتأكد لى مرة بعد أخرى أننى أمام مبدع أجمل ما فيه هو فضيلة الاستغناء، واتساق بين القول والفعل، فلا هو ترك مدينته المنصورة إلى القاهرة حتى يكون تحت أضواء الشهرة وهو يستحقها بجدارة كروائى ومثقف رفيع وكاتب متمكن، ولا هو جعل من مهنته كطبيب بابا للتربح، وإنما اعتبرها أداته الإنسانية ليكون خادما للمحتاجين والمرضى، وأذكر وقت بدء معرفتى به، أن همه كان الحصول على شقة أكثر اتساعا من شقته الضيقة، وكان يحسب حساباته لتحقيق هذا الغرض وليس فيها مثلا أرباح يحققها من مهنته كطبيب.
التكوين الشخصى للمبدع، قد يراه البعض ليس مؤثرا فى إنتاج هذا المبدع، فليس شرطا أن يجوع حتى يكتب عن معاناة الجوعى، غير أن رضا البهات من الصنف الذى يشع صدقا فى الحياة، فيكتب كلمته بصدق، هكذا هو فى «بشاير اليوسفى» و«شمعة البحر» وهكذا فى رواية «ساعة رملية تعمل بالكهرباء» التى أهلته للفوز بجائزة «ساويرس الثقافية».
«ساعة رملية تعمل بالكهرباء»، حكاية قال «البهات» عنها، إنه حاول «أن يكتبها على مدى عقدين بغير جدوى، أغرق فى عزلته ليكتشف كأنما سن الأربعين بروفة لما هو بعدها، وأن للمال الزائد إرادة تعلو على النوايا الطيبة، وأن المجتمع ليس فى حاجة إليها، حتى فى السجن يتبين له أن الكبار كبار والصغار صغار، وأن إدارة السجن تعامل الكبار كأنهم محتملون باحترام وتقدير، يقبل على الشراب والنساء اللاتى اعتدن بدورهن إرضاء الله والعشيق والزوج والمجتمع بغير أى شعور بالتناقض».
حكاية الرواية ربما تبدو على نحو كأنها تفضح المجتمع الذى تشقه الفروق الاجتماعية والتناقضات بين طبقاته وفئاته، لكن حقيقتها وأصلها أنها تكشف «أزمة وجودية لمثقف تشغله التابوهات الشائعة، الدين، الجنس، السياسة»، ويحاول البهات اختراق تلك الحواجز الاجتماعية، ويراها تمثل العبودية الحقيقية، وأنه لا تحرير له إلا بتحطيمها، لا بأن يغير طبقته، ويصبح سيدا يطوى عبدا بداخله.
«ساعة رملية تعمل بالكهرباء» ستجد فيها أشخاصا، مثل مراد النوبى، وجاسر، وعم طلبة، وعم جودة، ونعمان، بطل الراوية الذى تعرفه من ضمير المتكلم، وخاله، وأباه، وأمه، وكيرياكوس، والمقدس صبحى، وأم زمزم، ووردة التى ألهمت البطل شيئا للرواية، ومنى، وفاطمة، وإيزابيل، وأنعام، وأم إبراهيم، وستجد فيها أماكن مثل حى البرابرة الشعبى، وسوق الجمال، وجريدة حزبية بما فيها من صالة تحرير وبوفيه، ووكالة أنباء، وسجن يدخله البطل لفترة كمسجون سياسى لأنه ممن ينتسبون إلى تنظيم يسارى، وبار تدور فيه الكؤوس.
كل ذلك يحتشد فى رواية لا تسير وفقا لسرد تقليدى، ولا تسير طبقا لحكاية مألوفة، وإن قرأت الرواية على قاعدة «دراما البداية والوسط والنهاية، والعقدة الرئيسية للحكاية التى تتصاعد من حدث بعد آخر ثم تنفك»، فلن تجد فيها هذا، وإنما هى نص جمالى مفتوح على تفاصيل قد تشعر أنها مبعثرة، لكن ستجد تداخلها بعد حين، حتى تنتهى إلى أنك أمام لوحة فن تشكيلى متكاملة.
رضا البهات لا يكتب شيئا متشابها، ولا يكرر نفسه، فهو فى «بشاير اليوسفى» و«شمعة البحر» وأخيرا «ساعة رملية تعمل بالكهرباء» مبدع واحد لكن بتجليات مختلفة، أرى الصدق مفتاحها، والتمكن من أدواته الإبداعية سبيل لإخراجها بكل هذا الجمال.