نحن ما زلنا مجتمعا بدائيا متخلفا يعتمد فى حركته وتصوراته وقراراته على الخرافة. والدليل أن قطاعا لا يستهان به من الناس فى بلدنا يتصورون أنهم عندما ينطقون الكلمة باستمرار فإنها تكتسب وجودها، وتتحقق فعلا وكأنها الطلسم الذى ينادى به الساحر القديم على التراب فيتحول ذهبا، خذوا عندكم مثلا الشعارات البراقة الجميلة فعلا لثورة 25 يناير «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية» وفى هتاف آخر «عيش.. حرية.. كرامة إنسانية»، عدد كبير منا مازالوا يتصورون أنهم عندما يتركون أعمالهم وينزلون الساحات والميادين ينادون على تلك الشعارات فإنها تتحقق، وبقدر قوة الأصوات وهديرها والتفانى فى النداء فإن المطالب تتحقق أسرع، وبقدر طاقة الغضب المصاحبة للصوت يرتفع مستوى تحقق هذه الشعارات!
لو تأملتم كلماتى ستكتشفون الصدمة، أن تلك هى طريقة تفكيرنا فعلا، ودعكم من أن تلك الشعارات تعكس مطالب حقيقية، فالمشكلة ليست فى الشعارات ولا فى الاحتياجات التى نعانى عدم تحققها، ولكن المشكلة الحقيقية فى تصدينا لتحقيقها بطريقة لا تسمح أبدا بالعيش، والحرية، والكرامة الإنسانية، أو العدالة الاجتماعية.
كيف السبيل إذن إلى هذه الشعارات الجوهرية؟ بالعمل، وبذل الجهد، والابتكار والاجتهاد والمثابرة وتقديم النموذج، ثم الدفاع عن الظروف المثالية التى تجعل من العمل ناجحا، وبذل الجهد وسيلة للترقى الإنسانى ومواجهة أشكال الاستغلال والفساد، فماذا فعلنا فى هذا الاتجاه سوى المطالبة، وتوجيه الانتقادات والاتهامات، ورفض الإصلاحات، والتشكيك فى النيات، وتبنى خطاب المتطرفين أعداء البلد فى بعض الأحيان، وتبنى وجهة النظر العدمية الساذجة حول ضرورة الفوضى الخلاقة والهدم لإعادة البناء فى أحيان أخرى؟.
عندما يبدأ كل منا فى العمل لتحقيق أحلامه فى الترقى الاجتماعى والاقتصادى فعليا من خلال مشروعه أو عمله أيا كان مجاله، نقترب من شعارات الثورة، وعندما نتوقف عن تضييع الوقت فى الكلام فقط وإدراك أن الوقت يساوى مالا، فعندها نقترب من شعارات الثورة، وعندما تكون مطالباتنا عملية متجسدة على الأرض ومتعلقة بالبناء والإنتاج، فإننا نسلك الطريق الصحيح لإنجاح ثورة يناير وشعاراتها.
القائلون بأن البناء من جديد لابد وأن يسبقه الهدم دجالون، ومروجو الفوضى باعتبارها ضرورة حتمية لقيام مجتمع العدالة والكرامة نصابون ولم يسمحوا سوى بالقمع الوحشى فى بلادهم، والذين يسلبون المجتمع تماسكه لصالح الاستقطاب والانقسام الطائفى والدينى والعرقى بزعم التعبير عن الذات، وحرية الرأى هم طلائع الاستعمار الجديد الذى يستخدم لغة العصر للإيقاع بالشعوب البدائية المتخلفة من أمثالنا، وعلينا نحن أن نختار الانصياع للأفاقين والكذابين والاستعمار الجديد، أم نطرح عن كواهلنا نير التخلف، ونشمر عن سواعدنا للبناء من أجل نهضتنا وتطورنا؟.
أصعب ما يمكن أن نواجهه فى الظروف الراهنة، الحيرة أمام الطرق التى يجب علينا المضى فيها، والتى تحتاج إلى كثير من التفكير والتأمل، فهناك الطريق السهل للمعارضة والانتقاد والاحتجاج، وهو يوفر لصاحبه قدرا من الرضا الذاتى وإن كان مزيفا، لأنه فى الغالب لا يكون مرتبطا ببذل جهد عملى كبير، وهناك طريق آخر للإصلاح بالعمل والإنتاج وخلق مناخ يحمى علاقات العمل من الفساد والاستغلال، من خلال التنظيمات العمالية والنقابات، أما الطريق الثالث فهو استخدام فائض القوة والمال والطاقة لتحقيق شعارات الثورة من خلال العمل التطوعى الجاد لرفع مستوى المجتمعات الفقيرة فى العشوائيات والريف وعلى أطراف المدن.
بحسب الطريق الذى تسلكه الغالبية يتحدد مسار ومصير هذا البلد، أما الزعيق والجنجحة والمطالبة المجانية بالمعجزات وإما العمل والابتكار لتحقيق شعارات الثورة على الأرض، فماذا تريدون؟