وكما تحدثت فى مقال سابق عن قانون العملة الرديئة وهو قانون علمى اقتصادى، ويتلخص هذا القانون فى العبارة المشهورة ((النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق))، ذلك أنه فى البلاد التى يجرى فيها تداول نوعين من النقود القانونية أحدهما ردىء والآخر جيد فإن الردىء يطرد الجيد من التداول بين الناس.
سأستكمل حديثى عن تصدر واكتساح العملة الرديئة للمجتمع المصرى فى كافة المجالات بشكل ثابت وممنهج كما لو كان الباطل بات حقاً والحق أصبح باطل !
لذا أتوقف فى حديثى عن الرداءة التى تفشت فى مجتمعنا عند واقعة الإهانة التى صدرت عن الممثل الذى خرج لتوه من سنوات الطفولة ليلتحق سريعاً بقطار النجومية الذى سرعان ما يحمل نجوماً بلا رصيد. للأسف الأزمة هنا أخلاقية بحتة، أزمة جيل لم يحظ بالقدر المعقول من التربية والتعليم والتثقيف، جيل كل ما تلقاه هو نموذجاً للرداءة!!
فقد خرج علينا هذا الشاب الذى من المفترض أنه فنان وزميله المراسل ليسخروا من المجندين فى مشهد سخيف جداً يحمل فى طياته معانٍ كثيرة محبطة من هول ما أصاب المجتمع المصرى من تصدر وتداول العملة الرديئة، ولكن هناك اختلاف هام بين ما يحدث طبقاً لقانون العملة الرديئة وبين ما يحدث فى مصر، فحسب القانون أن الناس تدخر العملة الجديدة الجيده وتتخلص من القديمة بصرفها فتسود الأسواق والتعاملات، أما ما يغزو مجتمعاتنا من عملات رديئة لم يعد خياراً، بل أصبح أمراً واقعاً مفروضاً بفعل عوامل كثيرة وسنوات طويلة من التجهيل والتجريف الثقافى وإفساد الذوق العام وتلوث الأسماع والأبصار وتنجيم المفسدين والمجرمين فى شتى المجالات !
لذا أقترح على الممثل الصغير وزميله أن يتبادلا المواقع ولو لليلة واحدة مع اثنين من المجندين فى أحد الأماكن المفتوحة فى هذا الصقيع غير المسبوق، لنرى أين تكمن مقومات الرجولة وتحمل المسئولية بحق.
أما عن دور الدولة فى هذا الشأن، فهو الأهم ولن تنصلح الأحوال وتستقيم الأمور دونه :
على الدولة إصلاح منظومة التعليم الفاشلة بكل المقاييس.
ضرورة إعادة فتح وتشغيل المراكز الثقافية التى علت أبوابها الأقفال الصدئة لسنوات.
توجيه بوصلة الإعلام. المنحرفة إلى مسارها الصحيح، والتخلص من الكثير من التفاهات التى تكرس لهذا الانحطاط والتدهور الثقافى والأخلاقى، ليحل محلها عدد من البرامج العلمية التثقيفية والمواد الدرامية التعليمية التى اختفت منذ سنوات لصالح الهلس وقلة الأدب.
ضرورة تطبيق العقوبات المجتمعية قبل القضائية على كل من شابته الشوائب الأخلاقية سواء كان نجماً فى الفن أو الإعلام أو السياسة أو غيرها، وعقوبة المجتمع واستبعاده لهذه النماذج أشد قسوة من عقوبات السجن التى يخرج بعدها المدعو نجماً متوجاً.
فإن التفتت الدولة بكافة مؤسساتها التعليمية والثقافية والدينية إلى أهمية التنوير والتجديد سواء على مستوى الخطاب الدينى العقيم أو على مستوى التعليم وإعادة الاهتمام بنشر الثقافة واستجلاب القواعد والمعايير الأخلاقية المفقودة بطرق جاذبة للأجيال الجديدة التى لم تحظى بأى منها على الإطلاق، وكذلك تبتعد عن ملاحقة أصحاب الفكر والمتنورين قضائياً حتى وإن أخطأوا أو تجاوزوا الحدود فى بعض الأحيان، ففى النهاية هم مجتهدون إن أخطأوا فلهم أجر وإن أصابوا فلهم أجران ونحن بحاجة إلى الكثير منهم لمواجهة هذا السيل العارم من الأفكار المتطرفة ليس فقط دينياً ولكن أيضاً أخلاقيا.
أخيراً وليس آخراً: لن تختفى العملة الرديئة وتتوقف عن اجتياح المجتمع المصرى دون تصدى الدولة والعقلاء والمتنورين والإعلام عن طريق التغيير الجذرى لكل دواعى ومسببات هذا التدنى وتلك الرداءة.
فلننتفض جميعاً لإنقاذ أجيال جديدة من الجُهال المسطحين فاقدى القيم معدومى الأخلاق.