من المؤكد أن النظام الإدارى بمصر مهترئ ويحتاج إلى انقلابٍ جذرى، عمالة زائدة مكدسة موظفون على المكاتب فى كثير من المؤسسات الحكومية بأعداد لا حاجة للدولة إليها ولا يتعدى الإنتاج الفعلى للفرد قيمة ساعتى عمل يوميا أى اثنى عشر ساعة أسبوعيا من خمسة وثلاثين !
لكن إحقاقا للحق فى المقابل الجهات الخدمية مثل المستشفيات والمدارس، مصلحة الشهر العقارى والمحاكم وأقسام الشرطة وما إلى ذلك من مثل هذه الجهات التى لها علاقة مباشرة بالجمهور لا يكاد موظفوها يرفعون رؤوسهم حتى وقت الانصراف.
ومن واقع تجربتى فى العمل الإدارى بمستشفيات قصر العينى أستطيع أن أفيد أن الأعداد المهولة من المرضى التى لا يعدل كثافتها كثافة فى أى من مستشفيات العالم لا يكفى لخدمتهم من يعملون فى المجالات المعاونة للأطباء ال ( paramedical ) من فنيين وممرضين وعمال فأعدادهم لا تتناسب وهذا الكم المهول من المرضى ودائما ما تعانى المستشفى من نقص شديد فى هذه الفئات ودائما ما نتقدم بطلبات للتعيينات ودائما الإجابة لا توجد تعيينات بالدولة ولشدة الحاجة للفنيين والتمريض والعمال نلجأ لطريقة المكافأة الشاملة والتى لا تزيد عن مائتى وثلاثمائة جنيه شهريا ونظرا لاستحالة قبول أحدهم العمل ٦ساعات x ٦ أيام أسبوعيا بهذا المبلغ الزهيد نضطر؛ نحن أعضاء هيئة التدريس للتبرع من جيوبنا الخاصة لتعويض هذا العجز فى مرتباتهم حتى يصل مرتب كل إلى حوالى ضعفى هذا المبلغ ولايزال ذلك قليلا والغريب أنهم يرتضون ويبقون ولكن إلى حين !
وأظن أن هذا الحال يتكرر فى أماكن أخرى فمن المؤكد كلنا خاض تجربة تجديد رخصة السيارة أو القيادة أو بطاقة الرقم القومى أو استخراج قيد أو جواز سفر أو عمل فيش وتشبيه أو عمل توكيل أو أى توثيق فى الشهر العقارى !
المشكلة تكمن فى سوء التخطيط بدءا بانخفاض الحد الأدنى لدرجات القبول فى التعليم الثانوى العام بما يجعله يقبل بالحاصلين على مجاميع متدنية ولا ادرى لماذا لا يتم توجيههم للتعليم الفنى على وجه الخصوص ولا ادرى ايضا ما قيمة التعليم التجارى المتوسط لاستيعابه جزأً ليس بالقليل ممن تخلفوا عن الإعدادى والثانوى العام ؟ وعلى نفقة الدولة !! وكذلك كم التعليم الأزهرى وخريجوه مكدسون ؟ وأيضا على نفقة الدولة !! ثم ما يتبع هذه المرحلة من عدم الربط بين التعليم فى الجامعات والمعاهد ومتطلبات سوق العمل وهذه مشكلة لو تداركناها بالحل السريع كانت كفيلة بإصلاح هذا الوضع المقلوب فى غضون ست أو سبع سنوات وهى سنى الدراسة الثانوية مضاف اليها سنى التعليم الفنى أو الجامعى، كخطوة للإصلاح والتنسيق فيما يخص التوزيع الوظيفى، ولكن حتى نقرر البدء فى تدارك مشكلة عدم التنسيق بين نوع الدراسة ومتطلبات سوق العمل دعونا ننظر فى قانون الخدمة المدنية دون تحيز مستبعدين فكرة أنه جىء به خصيصا من اجل تسريح عدد من العاملين بالدولة ونفترض انه على وجه اليقين يهدف إلى الإصلاح دون أن يساورنا فى ذلك ادنى شك ونستبعد من اذهاننا تماما فكرة أنه "حق يراد به باطلا" فإن فكرة تقييم الموظف أو العامل وربط الأجر والحافز بالإنتاج وفرض تدريبات واختبارات دورية لرفع الكفاءة وعملية النقل بين الوظائف وصولا إلى انهاء خدمة من لا رجاء منه كلها خطوات اساسية اذا اردنا بالفعل تحسين الأداء ؛ هذا طبعا بفرض أننا سنراعى تحقيق العدل فلا ينبغى أبدا اعتبار المجتهد كالمهمل وطبعا بفرض ان ليس هناك شك فى نزاهة الإدارة أو انها ستستغل سلطتها فى محاباة احد على الآخرين أو التحيز له دون غيره.
هناك حقيقة أخرى لابد ألا تغيب عن أذهاننا فى وضعنا الحالى هى أن ما يقدم الموظفون من جهد فى أغلب الأحيان يتناسب مع ما يتقاضون لا يزيد ولا أريد أن أقول أن ما يتقاضون هو أقل من إعانات العجز والبطالة وحتى معاش السادات ومعاش مبارك فى بعض الأحيان وعلينا الإقرار بأنه لابد أن يكون لهؤلاء الموظفين أعمال أخرى يقومون بها بعد الانتهاء من عملهم كعامل مساعد على العيش وإلا ماتوا جوعا.
دعونا ننظر لهذا الوضع من منظور آخر، هب أن لى خمسة أبناء وعندى ثمرة تفاح واحدة، ترى أأقول أن الثمرة لا تقبل القسمة على خمسة فليس فيها إلا أربعة أرباع فأحرم أحد أبنائى ! أم أقسمها على خمسة أخماس وليأخذ كلٌ نصيباً أصغر ولا يحرم أحدٌ ؟ ذلك لأن من واجبى أن أعدل بين أبنائى فعلى أقل تقدير أضمن لهم حد الكفاف وحقا هو لا يزيد عن حد الكفاف، أم ترى نتركهم يصارعون الجوع هم وأسرهم ونلقى بهم فى عرض الطريق !!! أبدا هذا لا يجوز ! فالعمل حق وليس على فقط مراعاة حاجة الدولة ولكن ايضاً حاجة مواطنيها فلتقسم الدولة بين ابنائها ما لديها من فرص عمل كل حسب كفاءته فى تكافئ تام لكل الفرص وليتقاسموا الدخل تحقيقا للعدل، وأمثلة تخلى الدولة عن دورها تتحدث عن نفسها، اولا فى الإصرار على المركزية التى انتهت من العالم دون اللامركزية بعدم التخطيط للقرى كى تتحول تدريجياً إلى مدنٍ بها مجالات عمل أخرى جنباً إلى جنب مع الزراعة عن طريق دعم ما بها من صناعات قائم بعضها على الزراعة وبعضها على الثروة الحيوانية، لم تقم الدولة بدورها فى سن القوانين والرقابة بما يدعم الزراعة وما ارتبط بها من صناعات فكانت النتيجة هجرة اهل الريف إلى المدينة لا سيما القاهرة والإسكندرية وهجر الزراعة والقضاء بالتبعية على الصناعات الصغيرة والتى كسد سوقها امام المستورد فى ظل عدم حمايتها ودعمها، وحين اضطر هؤلاء الفقراء إلى النزوح نزوحا جماعيا إلى المدن جريا وراء لقمة العيش وفى غياب دور الدولة تجاه توفير المسكن المناسب لهم أو التخطيط له وغضها فى المقابل الطرف عن اى مخالفات كنوع من التعويض عن التقصير فى حقهم فى كل شىء؛ وفى اطار بحث هؤلاء لأنفسهم عن المسكن البديل انتهى بعاصمتنا العريقة الأمر أن أصبحت غابة من العشوائيات المخالفة لقوانين البناء بعد ان تم البناء على الأراضى الزراعية الرخيصة الثمن نسبيا مما زاد الطين بلة، وكما لم تشملهم الدولة فى التوسع فى شبكة المواصلات الجماعية من الأوتوبيسات العامة والمترو كى تغطى اماكن إقامتهم سمحت بتواجد الطرق البديلة كالميكروباص والتوكتوك اللذين شكلا العبء الأكبر على حركة المرور فى مصر اليوم حتى انتهت القاهرة والإسكندرية الجميلتان إلى ما انتهتا اليه من قبح وشلل مرورى مزمن، وتلوث بيئى زاد مع القصور فى تقديم الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لهذه المناطق التى اصبحت فجأة مناطق سكنية تعج بالسكان والتى هى ابسط حقوق الإنسان فى كوب ماء نظيف وصرف صحى آدمى ! وكانت النتيجة امراض لا حصر لها تكلفت الدولة بسببها المليارات !
إنما أردت فقط بهذا المثال تصوير ما يحدث حين تتخلى الدولة عن دورها من حيث التصور والتخطيط وكيف أن المواطن حتما سيحاول إيجاد الحلول والبدائل لنفسه وإن غلبت عليها العشوائية وكان الأفضل لها أن توفر هى البديل تحت أعينها وبتخطيط منها. نعم ليست الدولة "بابا وماما ولا أنور وجدى" ولكن هذا لا يعنى أيضا أن تتخلى عن دورها على الأقل فى التخطيط لمجتمع يغيب عنه الوعى والحس الجمعى وتغيب فيه ثقافة العطاء والتكافل والانتماء ويبحث فيه كلٌ عن الربح بأى وكل طريق كان دون أن يكلف نفسه أى مسئولية تجاه ما حوله على خلاف مجتمعات الغرب التى تسودها ثقافة المسئولية والعطاء فتجد مثلا فى البلاد التى لا تطبق مجانية التعليم العالى أن جامعاتها كلها مؤسسات غير ربحية قائمة على التبرعات يدخلها الطالب غير القادر بمنحة تقسط على اقساط بسيطة طويلة الاجل تناسب مقدار الراتب الذى سيتقاضاه حسب شهادته وتوفر له هذه الجامعة سكنا قريبا مناسبا فى غير مغالاة مخصصا فقط للطلبة والدارسين غير ناظرة لربح. ففى غياب هذه الروح لماذا لا يكون الزاما من الدولة مثلا على كل مستثمر امام كل مشروع له ان يقيم مشروعا مماثلا بنسبة معينة للفقراء أو يخصص لهم نصيبا فى مشروعه ذاته بنسبة تتناسب ونسبتهم فى المجتمع ؟ لماذا لا توقف الدولة ؛ كما طالبنا مرارا ؛ تراخيص بناء الجوامع وتستبدلها بمدارس ومستشفيات ومصانع ودور للأيتام وللمسنين لمن يريد فعل الخير وليس ذلك أقل ثواباً عند الله وقد يزيد ؟ لماذا لا تتدخل الدولة فى أنشطة الاستثمار فلا تصب جميعها فى المبانى الخرسانية والمنتجعات الفاخرة والمدارس والجامعات الخاصة باهظة المصروفات والتى لا تشكل باب عمل دائم اذ ينتهى العمل بها بإتمام البناء، أو تلزمهم فى مقابل كل مشروع إقامة مشاريع صناعية وزراعية لإيجاد فرص عمل على وجه الدوام قبل ان تسرح موظفيها وعمالها.
باختصار أرى أن خطة الدولة يجب أن تراعى الوضع الحالى للناس وأن تعمل على الانتقال للنظام الذى تبغى تدريجيا لا زمرة واحدة وليس قبل إيجاد بدائل للمضارين ذلك مع إدخال الجديد فليس من مصلحة الدولة أن تترك المواطنين وحدهم فى مواجهة مع الجوع والعوز وألا لا تلوم إلا نفسها فيما سيجد هؤلاء لأنفسهم من بدائل عشوائية غير مدروسة ستكون من حقهم آن ذاك !