مايكل فارس

عندما صليت بالجامع وركعت

الأحد، 31 يناير 2016 07:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

لم أرشم الصليب ولم أقل "باسم الصليب"، كما يفعل المسيحيون -هو تصرف تلقائى فى الثقافة المسيحية خاصة لدى كبار السن عندما يتفاجئون بموقف ما- فى صباح جمعة الغضب 28 يناير 2011، قبيل صلاة الظهر، وقبل انطلاق الملايين من الشعب، عندما تفاجأت بجنود الأمن المركزى وهم يغيرون ملابسهم داخل عمارات وسط البلد من الزى العسكرى إلى الزى المدنى، ويوزعون أنفسهم على العمارات بميدان التحرير وشارع طلعت حرب، بل توجهت مباشرة إلى جامع عباد الرحمن خلف هارديز بميدان التحرير.

قبيل صلاة الجمعة بساعة، كنت قد وصلت مع صديقى محمد الصاوى، إلى ميدان التحرير، وتوجهنا معًا إلى الجامع، قال لى سأذهب للصلاة، وقلت له "مش هسيبك"، رد "استنانى هخلص واطلعلك" قلت له "هدخل معاك"، فابتسم وقال "طب اعمل زى ما أنا هعمل"، فخلعت حذائى ودخلنا سويًا للجامع لصلاة الظهر.

لا أعلم ماذا يقول المسلمون خلال الصلاة فى الجامع إلا القليل عن طقوس الركوع والتوجه بالرأس يمينًا ويسارًا فى نهاية الصلاة مع القول: "السلام عليكم ورحمة الله"، عدد الركعات أو السجدات أو كلمات الصلاة لا أعرفها، ولكنى فعلت مثلهم تماما بجوار صديقى المسلم الذى قرر القدر أن يجمعنا للصلاة فى الجامع.

بدأت صلاة الظهر، وبدأت أصلى وأسجد، وأقوم وأسجد مثلهم وقرأت صلاتنا المسيحية فى سرى "يا أبانا الذى فى السموات، ليتقدس اسمك، ليأتى ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما فى السماء، كذلك على الأرض.."، ثم بدأت فى صلاة خاصة تضمنت دعوات لنجاح الثورة وأن نحقق ما خرجنا من أجله وهو إسقاط نظام مبارك والعيش فى حرية وكرامة إنسانية.

انتهت الصلاة وخرجنا، وإذ بصوت عالٍ من أحدهم "الشعب يريد إسقاط النظام" وبدأنا نهتف بصوت أجش وبحماس، لم نعهده فى أنفسنا من قبل، خرجنا فى مسيرة ذات أعداد قليلة، ورثيت فى نفسى المصريين على العدد الزهيد الذى بدأ، شعرت بأنه لن يخرج أحد، فمسيرتنا صغيرة، أملاً أن تتزايد الأعداد، وفى اتجاهنا للتحرير وجدنا اصطفاف كردون أمنى بأعداد غفيرة أكثر منا بكثير ويرتدون الزى العسكرى والمدنى، بصحبتهم بلطجية، وإذ يأخذون الأوامر لتفريق المسيرة وبدأوا بالهجوم، لنتراجع عبر الشوارع الخلفية، لنصل إلى شارع التحرير فنجد القنابل المسيلة للدموع تتهافت علينا من كل الجهات.

بكيت 4 مرات خلال ساعتين من خروجنا من الجامع، الأولى عندما رأيت أبًا يحمل طفلته الرضيعة وزوجته ممسكة بأيدى طفلتها ويسيرون معًا هاتفين: "الشعب يريد إسقاط النظام"، "عيش حرية كرامة إنسانية"، وسألت نفسى ما القوة الكامنة فى قلب ذاك الرجل الذى تجعله يسير بطفلته الرضيعة وسط قنابل الغاز التى أعمتنا نحن الشباب.

والمرة الثانية، عندما رأيت سيدة أربعينية، فى يديها أكياس خضراوات وفواكة، وإذ ترانا نهرب يمينًا ويسارًا من عبء الغاز المسيل - ولازلت أراها حاضرة أمامى - إذ بدموعها تنهمر وترمى بأكياسها أرضًا وتجرى تجاهنا هاتفة بأعلى صوتها "الشعب يريد إسقاط النظام"، بدا عليها فى البداية أنها غير مكترثة لأمرنا، وأعتقد أن مشهد مسيرتنا المتواضع وتلقينا عشرات القنابل جعل قلبها ينبض من جديد وتتذكر أهوال النظام القمعى، فتلقت معنا قنابله.

المرة الثالثة، خلال سيرنا فى شارع محمد صبرى أبو علم ووصولنا لبداية شارع طلعت حرب، كان هناك كردون أمنى، وإذ بضابط شرطة يشير إلينا بموافقته على تجاوز الكردون والسماح لنا بالسير، وإذ بالسيدات يزغردن ومنهن من قبله على رأسه وكبار السن منهن قالوا له "ربنا يخليك يا بنى"، وقام البعض بحمله على الأكتاف، شعرت وقتها بأنه ما زال هناك أمل، وهناك من جهاز الشرطة من يعلم جيدًا لماذا خرجنا والحرية التى نطالب بها.

المرة الرابعة، عندما بدأنا السير فى شارع طلعت حرب وجدنا مسيرة قادمة من ميدان عبد المنعم رياض انضمت لنا فى ميدان طلعت حرب، وسرنا فى الشارع لنهتف ضد النظام والمطالبة بالحرية لنجد مسيرة كبيرة قادمة لنا من أمام دار القضاء العالى، لتنهمر أعين أغلبنا بالبكاء فرحًا، لأن عددنا صار أكبر، وجدتنى أبكى وإذ بشكل تلقائى أقوم باحتضان القادمين بين ذراعيى وأقبلهم، لا أعرفهم ولكن "الحرية" التى نبحث عنها جمعتنا.

لم أبك يوم 25 يناير يوم بدء "الثورة" عندما اعتقلت يومين فى معسكر السلام، حيث أخذنا جنود الأمن المركزى من مسيرة صغيرة فى شارع طلعت حرب، قرابة الثامنة مساءً، واستطاعوا محاصرتنا بالصواعق الكهربائية ووضعونا فى سيارات لتصل بنا للمعسكر وإذ الأعداد تتزايد، وكل ما فكرت فيه أننا لن نرى النور مرة أخرى ومصيرنا تهم "قلب نظام الحكم" وسألت نفسى هل سننجح؟ أم سنختفى من التاريخ وسط معتقلات ولا أحد يعلم عنا شيئًا ونتهم بالخيانة العظمى؟، ورسمت سيناريو الاعتقال، أن استغل سنواتها، بأن أتقدم بطلب للسماح لى بالتوجه لمكتبة تابعة للسجن لأقرأ كل علوم ومجالات الحياة، ولكنى لا أجد إجابة حتى الأن لسؤال.. لماذا صدرت أوامر بخروجنا فجر 27 يناير، حيث قاموا بإخراجنا عبر مجموعات؟.

ركعت شكرًا وسجدت على الأرض أقبلها وقلت بأعلى صوتى "الله أكبر..الله أكبر".. وكأنى مسلم، ثقافتى المسيحية لم تسعفنى آنذاك من جلل الفرحة، عندما تنحى مبارك عن الحكم 11 فبراير 2011، وكنت أيضًا مع رفاقى المسلمين وعلى رأسهم محمد الصاوى، كنا آنذاك فى نقابة الصحفيين، وسمعنا خطاب التنحى الذى ألقاه عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية آنذاك، وجدتنى أفرح مع أصدقائى المسلمين ساجدًا مثلهم وأهتف معهم "الله أكبر.. الله أكبر".

مرت خمس سنوات على تلك الذكريات وما زالت حاضرة فى ذهنى وغيرها الكثير والكثير، كم من موقعة واشتباكات وأحداث، لن تندثر، فدماء الثورة تجرى فى عروقنا، لا ولن ننساها، ورحيقها سيهب من جديد لو أخطأ البعض وتجاوز خطوطه الحمراء.

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة