تمر القرون ويبقى هذا المشهد على حاله، وقف الشر يومًا فى أرض المعركة، فحكم على مستقبلنا بالسواد، حكم عليه بدوام الاحتقان، حكم عليه بدوام الشتات، حكم عليه بالموت البطىء والعيش القمىء والهواء الردىء، قالوا ارفعوا المصاحف فوق أسنة الرماح، فرفعوها، قالوا لا حكم إلا لله، لم يحكم الله وإنما حكم الشيطان، قالوا نحن سنة وأنتم شيعة، ففصلت بيننا خنادق الدم وصار سلامنا سبابا ونباحا وتناحرا واحتقانا، رفعوا المصاحف بقوة، فانغرست الأسنة فى «رحمة للعالمين» وانغرست فى «قل يا عبادي» وانغرست فى «يا أيها المؤمنون» وانغرست فى «تعالوا إلى كلمة سواء» وانغرست فى «واعتصموا» ولم تنج من الواقعة سوى «كتب عليكم القتال». تمر القرون ويبقى هذا المشهد على حاله، فتنة دائمة لا تنام لنلعن من يوقظها، بل توقظنا كل صباح على رائحة الدم وأصوات النذير، تئن المصاحف من طول تعليقها على أسنة الرماح، تنزف المصاحف فننوح، تتألم المصاحف فنصرخ، تبكى المصاحف فيتردد صوت البكاء فى أرجاء العالم الإسلامى، ولا نبرع فى شىء قدر براعتنا فى كتابة المراثى والبكاء على الحلم المسفوك.
تقول المصاحف: اتركونى وشأنى، تنادى: أغيثونى منكم، تصرخ: تعبت تعبت تعبت، تعبت من شارات دمكم، تعبت من ثقل أخطائكم، تعبت من حجم أغراضكم، تعبت من كل يوم تحملوننى فيه ما لا أحتمل، فنصم آذاننا عن آهاتها، والأسنة تنغرس، والبكاء يطول.
نقفز قرونًا، لكننا نظل فى المكان، تغادرنا السنون ولا نغادر موضعًا، هذا سنى، وهذا شيعى، ومعارك الأمس تصبح معارك اليوم، وليس لنا حيلة إلا عد الضحايا، وتوقع أرقام الضحايا الجدد، وتجىء المعارك اليومية لتجدد المعارك التاريخية وكأننا كنا نعيش على قشرة من جليد تخفى تحتها بركانا هائلا.
ما بين ليلة وضحاها تبدل الحال، قشرة رقيقة من التحفظ تشققت، غلالة رقيقة من الاتصال تقطعت، احتقنت الأجواء فوق احتقانها، وتبدل لون من الأخبار من اللون الأخضر إلى الأحمر، الجميع يتكلم عن الأزمة السعودية الإيرانية التى تسبب فيها قتل رجل الدين الشيعى «نمر باقر النمر» دقت الحرب المذهبية طبولها، وفجأة ظهرت إلى السطح قضية «ريحانة جبارى» تلك الفتاة الإيرانية التى أعدمت لأنها قتلت رجل استخبارات إيرانيا حاول الاعتداء عليها، وفجأة أيضا قيل إن ريحانة «سنية» وإن إعدامها جاء لأسباب طائفية وليس لأسباب جنائية، وحينما فتح الجميع خزانة التاريخ وجدوا بها ما يسر كل طائفة، قوائم بالمذابح، أبطالا منسيين، ضحايا مغدورين، لوائح بالقتلة، سجلات بالوقائع الدامية، فتح المزاد، والأمهر يظفر، كل حسب طاقته ومقدرته، والغلبة هنا ليست للعقل أو للمنطق أو حتى للساعد، لكن لمن يملك نفسا عميقا يمكنه من الغوص إلى غياهب الجب دون أن يلقى حتفه.
قرون مرت وبقى هذا المشهد على حاله، وفى التاريخ مرت أسماء بنت أبى بكر على جثة ابنها المصلوب عبدالله بن الزبير بعد ثلاثة أيام من قتله، فأطلقت صيحتها الشهيرة «أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟» لكننا وبعد مرور أربعة عشر قرنا بخلنا بمثل هذه الصيحة على مصاحفنا التى تنغرس فيها الرماح فلا تجد لها مغيثًا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د / أ سامة ناصف
وحشتنا مقالاتك الجريئة ، تحياتى
فوف