«لستم أكثر منا تدينا لتعظوننا.. خليكم فى أنفسكم.. وفروا نصائحكم.. إحنا فاهمين ديننا أحسن منكم»، وهكذا تتوالى الردود النافرة الرافضة لأصل فكرة بسيطة ومعروفة فى دين الإسلام بل وأى شريعة سبقته، فكرة الدعوة والنصيحة والتوجيه للخير، فكرة حين طبقتها الأمة استحقت أن يقول عنها ربها «كنتم خير أمة أخرجت للناس» لماذا؟ لأجل سواد عيونكم مثلا؟! بالطبع لا. إنها الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. «تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله»، هذه هى علة التفضيل وهذا مربط الفرس وحتى الأمم السابقة، كان ذلك أيضا هو معيار التفضيل فيها «وَمِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ «سورة الأعراف»، وليس من قوم موسى فقط بل من كل الخلق دائما ما تجد من يهدون بالحق ويعدلون به «وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ «سورة الأعراف»، بل ولقد لُعن بنو إسرائيل بسبب تفريطهم فى تلك الفكرة كما ورد فى سورة المائدة بشكل صريح واضح.
الفكرة إذًا قديمة ومتأصلة ولا غرابة فيها، المشكلة فى نوعية الردود التى تربط تلك الفكرة دوما بذلك الوهم والتلازم القابع فقط فى خيال مناهضى التدين وكارهى الدعوة والدعاة وهم خلاصته أن كل هذا ما هو إلا نوع من ادعاء الفضل وسبيل ينتهجه الداعى أو الناصح ليعلو على الخلق ويتسلط عليهم! وهؤلاء لا ينفكون أبدا عن ترسيخ ذلك الوهم بشتى السبل وتنضح به كلماتهم ومقالاتهم، والحقيقة أنها ليست دعوى جديدة لقد قالها قوم نوح من قبل: «مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ» «سورة هود 27» إنها نفس الفكرة بتمامها كفاك تفضيلا لنفسك وأتباعك علينا، فلسنا نرى لكم علينا من فضل وما أنت إلا بشر مثلنا بل نقولها لك واعقلها جيدا: إنا لنظنكم كاذبين، هكذا أيضا توالت الاتهامات وانهمر سيل الكلمات على مسامع نوح عليه السلام.
تقولون ما هو إلا بشر مثلكم وليس له فضل عليكم؟! فوالله ما جاوز ذلك يوما ولا ادعى غيره.
وها هو ذا يؤكد مرة أخرى على هذا المعنى: «وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّى مَلَك»ٌ «سورة هود 31» لم يدع يوما أن معه خزائن ملأى بالمال يغنيكم بها ويزيد مالكم ولم يقل يوما إنه يعلم الغيب ولم ينسب صفة من صفات خالقه لنفسى إنما لسان حاله ومقاله كسائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام: «إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ» لكن كما أنه بشر فأنتم كذلك.. والحقيقة أنكم أنتم من زعمتم لأنفسكم فضلا على غيركم فرفضتم النصح ممن هو مثلكم أو ترونه أقل منكم، وهكذا حال المستكبرين فى كل زمان، يرمون من يدعونهم إلى الخير بتهمة التكبر والرغبة فى العلو عليهم، والحق أن ذلك داؤهم وتلك آفتهم، وكما قال الأولون: رمتنى بدائها وانسلَّت.. والمشكلة ليست وحسب فى ذلك الوهم والادعاء فهو كما قلت قديم متكرر.. المشكلة الأهم فيمن يصر بقصد أو بدون قصد على أن يعطى أصحاب ذلك الوهم والادعاء المغلوط حجة وبينة تؤكد دعواهم وتعضد مسعاهم أولئك الذين يجعلون من دعوتهم وعلمهم مطية للعلو على الناس وكسب المزيد من الأتباع والمريدين ويرفضون بلسان الحال والمقال أن يعاملوا معاملة البشر وأن ينزلوا منازل البشر.. ويعينهم على ذلك أولئك الأتباع المغالون الذين لا ينفكون عن تقديسهم وتعظيمهم وإضفاء هالات الجلال على شخوصهم ويرفضون أى نقد أو اختلاف أو رفض لآراء ساداتهم وكبرائهم!
ولا يدرى الصنفان سواء تابعين ومتبوعين أنهم إنما يعينان بقوة أولئك الذين صدرت المقال بذكرهم ويؤكدون مزاعمهم ويعطونهم أعظم هدية ينتظرونها بشغف، هدية القداسة المزعومة المغلفة بالغلو والمزينة بالتعصب ومعرفة الحق بالرجال، فلبئست الهدية ولبئس المُهدِى والمُهدَى لهم.