أنفقت أياما كاملة - أحيانا - للوصول إلى التاريخ الصحيح
لا يستطيع الإنسان أن يعرف التاريخ إلا إذا قرأ، ولا يستطيع الحكم على حاضره إلا إذا عرف قصته من بدايتها، والبداية تعنى الماضى، والماضى قصة ممتدة صنعها أشخاص.
وبعض من هؤلاء الأشخاص عاشوا فى الظل، ورحلوا دون أن نعرف ما فيه الكفاية عما فعلوه سلبا أو إيجابا، وبعضهم وقف على المسرح يقدم دوره أمام الدنيا كلها فشاهده الجميع، والحصيلة هى حكايات يتم تدوينها، غير أن التدوين نفسه قد يخضع لأهواء، تؤدى إلى إخفاء هذا، وإبراز ذاك. وبين الحالتين قد يتوه جزء من الحقيقة، أو تتوه الحقيقة كلها، وتأتى المأساة حين يكون حاضرنا قائما على تلك الحقيقة التائهة أو الضائعة، ولأن الضحية هى نحن، و«نحن» تعنى بلد يتطلع إلى المستقبل، فإن ذكر وقائع التاريخ الصحيحة فرض عين على كل من يحمل القلم ليسخره فى كتابة التاريخ، وإخفاء تلك الوقائع ذنب يتحمله كل من يعرفه ويخفيه، أو يعرفه لكنه يطوعه لمصالح خبيثة. فى لقاء لى منذ سنوات مع الأديب الكبير بهاء طاهر، قال لى: «مصر بلد لا يموت التاريخ فيه»، وحين تصديت بدءا من أول يناير 2014 لكتابة زاوية «ذات يوم» على صفحات جريدتى «اليوم السابع»، تأكدت أكثر من أن مقولة أديبنا الكبير، حقيقة واضحة، وشمس ساطعة، فما قرأته من أحداث وقعت منذ ما يزيد على قرن أو قرنين، ما زال الكثير منه حاضرا وبقوة.
«ذات يوم» تقوم على اختيار حادثة تاريخية حدثت فى يوم مماثل لنشرها، وتقديمها بطريقة صحفية سهلة، وسرد درامى مشوق، وبالتالى هى ليست جرعة أكاديمية خالصة، لكنها فى نفس الوقت تلخيص لحدث قد نكون نسيناه، أو يكون ما زال حاضرا فى الذاكرة الجماعية. واهتديت من البداية إلى أن أعطى الأفضلية فى أن تغطى أحداث «ذات يوم» ما حدث فى مصر والمنطقة العربية، فهذا تاريخنا الذى لابد أن نعرفه، وجرت الكثير من عمليات التجريف فى سرده.
وفضلت التركيز على أحداث ليست معروفة، وأخرى شائعة لكن يتم المرور عليها مرور الكرام، فالأحداث الكبيرة فى التاريخ تأتى بعد مقدمات تشمل أحداث صغيرة، ومع الاستغراق فى تدوين الحدث الكبير قد ننسى المقدمات، كما أن التقليب عن الأبطال المنسيين فى أى حدث يشغلنى كثيرا، وكلما كنت أعثر عن واحد من هؤلاء أشعر أن رسالة «ذات يوم» تحقق رسالتها، ويقودنى ذلك إلى القول بأننى لو أملك من الوقت والجهد ما يكفى، لخصصته للكتابة عن كل هؤلاء الأبطال المنسيين فى تاريخنا. ولم أتحمس إطلاقا لاختيار مناسبة مولد أى شخصية، لأننى أرى الحدث الحقيقى من أى شخصية يأتى بعد الميلاد وأثناء حياته، ووضعنى هذا التفضيل أمام بحث متواصل فى المراجع التاريخية والمذكرات السياسية وغيرها من الدراسات المعنية، وكثيرا ما كنت أضع يدى على حكايات فى الماضى، فأجدها موجودة فى الحاضر، بأشخاص آخرين وتفاصيل مختلفة، لكن الجوهر واحد، ومن هنا اكتشفت أن «ذات يوم» تخاطب الحاضر بامتياز، بالرغم من أنها تتحدث عن حكايات تمت فى الماضى، وأنها تترجم مقولة «بهاء طاهر»: «مصر بلد لا يموت التاريخ فيه»، غير أن هناك أشياء واجهتنى فى هذه المهمة أرى من الواجب الإشارة إليها:
فى عملية «البحث التاريخى» للوصول إلى تاريخ كل حدث واجهتنى صعوبات متعددة، فوقائع التاريخ موجودة فى المراجع، غير أن الخلاف يأتى أحيانا حول توقيت حدوثها، فمن الممكن أن نرى الحدث الواحد مدون فى كتاب بتاريخ ما، فى حين يتم روايته فى كتاب آخر على أنه وقع فى تاريخ آخر، ورتب ذلك بالنسبة لى جهدا كبيرا فى البحث والتدقيق للخروج من هذا الاختلاف بطريقة آمنة والتوصل إلى التاريخ الصحيح، ولا أبالغ فى القول إننى أنفقت أياما كاملة أحيانا للوصول إلى التاريخ الصحيح، وانصرفت عن وقائع بعينها خاصة فى تاريخنا البعيد «نسبيا» على أمل الرجوع إليها بعد تدقيقها.
«من مقدمة كتابى «ذات يوم»، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة