ظلموه وهو الأجمل، واتهموه بما ليس فيه، لكنه لم يكف عن النصاعة، ولم يكتف من الجمال، ولم ييأس من بث الشجن فى النفوس والسكينة فى العيون، تركوه وحيدا دون أغنيات تمنحه ما ليس فيه، ودون إشارات حقيقية لجماله الفتان، لكنه لم يعبأ بكل هذا، وظل على حالة، لا يتكلم إلا بلغة الكون ولا يستمتع إلا بالصراحة المطلقة، التى تصل إلى حد التعرى.
فى مصر ربيعنا هو الخريف، أجمل فصل السنة وأجمل فصول الروح، فيه نقف على أعتاب العالم نستعد للتخلى عن كل الحمولات الزائدة، ونفرح بالكون وهو يمارس فضيلة الاستغناء، يتساوى الليل والنهار، فنتوازن، يعتدل الجو مشفوعا بالنسائم الباردة فيتفتح العقل وتتأجج المشاعر، موسم يعود فيه الإنسان إلى إنسانيته، يتذكر الحزن النبيل، ويشتاق إلى الأحبة الغائبين، ونراجع فيه ثوابتنا، فنخرج منه متأهبين لعام جديد بروح جديدة.
هو أيضا فصل له «منطق» تشعر به وكأنه «عامل نظافة العالم» يمسحنا من الموت، ويسقط أوراق الشجر الذابلة، ثورة كونية تستبعد الأوراق، التى شاخت على غصونها، لتفسح للقادم الواعد، ويدعم الأرض بما تيسر من خير الساقطين.
لم يغن أحد له «الدنيا خريف والجو لطيف.. قفلى على كل التخاريف» لكنه برغم ذلك مازال قادرا على الافتتان بنفسه ولنفسه، يكرهه الكاذبون الذين يخشون من التعرى، أما هو فلا يكره أحدًا، يمنح دفئه للجميع، يمنع سحره للجميع، يمنح ولعه للجميع، لم يكذب المصرى القديم حينما جعله أول فصول العام، فالتخلية لابد أن تسبق التحلية، التعرى لابد أن يسبق اللقاء الموعود بالإخصاب.
فى مصر القديمة كانت سمعة الخريف مختلفة عن الآن، فقد جعل المصرى القديم منه أول السنة، وبشهر «توت» أو «تحوت» كان العام يبدأ، وأنه من المهم هنا أن نذكر أن «تحوت» هذا كان من أهم المعبودات فى العصر القديم، وكان أيضا من أهم الفلاسفة، فتعاليم هذا المعبود المقدس غزت العالم كله بحكمتها، وأصبح له من المريدين ما يفوق الخيال سواء فى العصر الحديث أو العصور القديمة، ولهذا كلما هل علينا الخريف بنسائمه الطيبة نشعر بأن شجنا ما حكيما مسنا، فروح «توت» مازالت حاضرة، حتى لو أنكرها المنكرون.