«ما الشعر؟» سؤال ليس سهلا، إنه الاستفهام القديم الذى تجاوز الأزمنة، وألقى بظلاله على القصيدة ولا يزال، أما إجابته فهى «سر كبير» يمنحه الله للمخلصين من أحبابه، الذين يدركون «شرف الكلمة» ويعرفون قيمتها وقدرها، وعلى امتداد التاريخ تطوع الفلاسفة والنقاد وحتى رجال الدين بمحاولة البحث عن تفسير لهذه النصوص المسكونة بالروح المسماة «شعر»، وكلما استقر القلب على تعريف محدد، يأتى شاعر متميز بنص جديد، فتجد نفسك تسأل «ما الشعر؟».
وها هو الشاعر محمد القلينى يفعل ذلك فى نص جديد «طردونى من العمل» فأنت تجد جماله، وتحس بصوره وموسيقاه دون أن تعرف من أين يأتى ذلك بالتحديد، «طردونى من العمل، وقالوا: اذهب، واعمل عند الله، وها أنا يا رب، محمد إبراهيم القلينى، أربعة وثلاثون عاما، متزوج، وأعول طفلين، وأرغب فى العمل لديك»، حتما وأنت تقرأ النص سوف ترى نفسك مشاركا لـ«القلينى» فى التجربة، فكلنا أبناء الله المطرودون من العمل الباحثون عن اليقين، فتقول لنفسك: إن جمال النص يكمن فى «التجربة»، لكن بعد توغلك داخل النص ستجد ما هو أكثر، فتقول ربما هى اللغة أو الصورة أو الربط بين الأشياء البعيدة، وربما الإحساس بالآخرين، وربما الإيقاع النابع من داخل الخيط السردى الرفيع، وربما «الصوفية» الكامنة خلف اللغة، وربما أشياء أخرى غير ذلك.
ستقول لنفسك لقد «عرفت» أن جمال النص عند محمد القلينى يأتى من تداخل الخيالى بالواقعى، ويأتى من الوضوح المحبب، فجميعنا نشعر بما يريد «القلينى» قوله ولا نحتاج إلى وسيط يشرح لنا المعانى الكامنة خلف النص «قبل طردى كنت أحمل البضائع، وأنقلها إلى المخازن الواسعة، فلماذا لا توظفنى لديك شيالا؟ سوف أحمل السحب على كتفى، وأظلل بها رؤوس الأرامل، اللواتى يبعن الخضار فى شوارع مدينتنا، أنا قوى يا الله، يمكننى أن أحمل جبلا عظيما لأثبت به، قلب امرأة غرق ولدها، وهو يحاول الوصول إلى أحلامه، التى تنتظره على الجانب الآخر من البحر»، لكن وضوح نص محمد القلينى ليس بمعنى الإتاحة، لكن بمعنى «إدراك أن هناك قارئا سوف يهتم بهذا النص الشعرى ويقرأه أكثر من مرة إعجابا به».
الخلاصة هى أن محمد القلينى إضافة لقصيدة النثر المصرية، لأنه يكتب نصا لا يتخلى بسهولة عن ميزات قصيدة التفعلة، كما أنه يعرف قيمة التواصل بين النص وقارئه، وفى داخله معنى واضح للشعر يريد أن يحققه من خلال الكتابة، وذات مرة استنكر أحد المثقفين العرب الاهتمام الذى أخذه محمد القلينى بعد صدور ديوانه «أركض طاويا العالم تحت إبطى»، وأتمنى من هذا المثقف أن يقرأ نص «طردونى من العمل» فحتما سيكون له رأى مختلف.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة