لم تكن روسيا حاضرة من قبل فى انتخابات الرئاسة الأمريكية مثلما كانت فى انتخابات هيلارى وترامب، وبغض النظر عن التصريحات الإيجابية الكثيرة من دونالد ترامب، والسلبية من هيلارى كلينتون تجاه روسيا، وأياً كانت درجة مصداقية ونوايا ترامب فى الالتزام بتصريحاته ووعوده لروسيا بعد دخوله البيت الأبيض فى يناير المقبل، فإن هذا لا يلغى الحضور القوى لروسيا على الساحة السياسية الداخلية فى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو حضور غير مسبوق فى تاريخ العلاقات بين البلدين، ووصل لدرجة الثقة لدى موسكو، بعد رفض واشنطن مشاركة الدبلوماسيين الروس فى مراقبة الانتخابات، أن تعلن أنها ليست بحاجة للمشاركة فى مراقبة الانتخابات فى داخل الولايات المتحدة، ولا حتى فى موسكو.
واعتقد البعض من هذا التصريح أن موسكو لا تبدى اهتماما للانتخابات الأمريكية، وهذا غير منطقى، بل الواقع أن الكرملين أولى هذه الانتخابات اهتماماً فوق العادة، وما خرج من تصريحات أمريكية تتهم الكرملين بالتدخل فى الانتخابات، لم يكن بعيداً تماماً عن الحقيقة، رغم نفى الكرملين لهذا الأمر، وهو ما اتضح فيما بعد باعتراف نائب وزير الخارجية الروسى سيرجى ريابكوف، الخميس 10 نوفمبر، باتصالات موسكو بدونالد ترامب وفريقه الانتخابى طيلة حملته الانتخابية، مشيرا إلى استمرار هذه الاتصالات.بعد فوزه بالرئاسة، ولم يكشف ريابكوف عن طبيعة وماهية هذه الاتصالات، إلا أن البعض وصل لدرجة التخمين بأن موسكو هى التى اختارت لترامب فريق العمل معه أثناء الحملة الانتخابية، وربما بعدها، وهو ما لمح إليه ريابكوف فى تصريحاته بالقول: "نحن على معرفة بمعظم الشخصيات التى يعتبرونها مقربة من ترامب، وفريق عريض من هذه الشخصيات كان على اتصال بممثلين عن الجانب الروسى".
كل هذه الأمور تعطى مؤشرات إلى أن هناك تغيير ما سيحدث فى العلاقات الروسية – الأمريكية مع ترامب، وأنه سيكون تغييرا للأفضل، هذا رغم شبه الإجماع فى الآراء على أن السياسة الأمريكية لا تتغير بتغير الرؤساء، وأن تصريحات المرشحين للرئاسة شىء وأفعالهم بعد دخول البيت الأبيض شىء آخر تماماً، كل هذا مفهوم ومنطقى إلى حد كبير، لكن المنطقى أيضاً أن هناك تغييرات جذرية تجرى الآن على الساحة الدولية وأن موازين القوى العالمية تتغير، ولهذه التغييرات تأثير كبير على السياسات الخارجية للدول الكبرى والصغرى، والولايات المتحدة ليست استثناءً من هذا الأمر، بل ربما هى الأكثر استجابة وتفاعلاً معه، وتطورات الأزمة السورية وأزمة أوكرانيا والصراعات بين موسكو وواشنطن على الساحة الأوروبية تؤكد ذلك، وتكشف عن تراجع وضعف واضح فى فاعلية القوة الأمريكية.
شاء البعض أم لم يشأ، فإنه يجب الاعتراف بالصعود الروسى القوى على الساحة الدولية، عسكرياً وسياسياً أيضاً، وما حدث فى انتخابات الرئاسة الأمريكية يعطى دلائل كثيرة على ذلك، بل أن الأمر وصل لدرجة أن بعض الدول الأوروبية باتت تتحدث هى أيضاً عن تدخلات روسيا فى انتخاباتها، وتوجيهها لخدمة مصالحها، وأن الفوز فى الغالب الآن فى الانتخابات فى أوروبا هو حليف حلفاء روسيا وأصدقائها، مثلما حدث فى الولايات المتحدة، وهذا ما جرى بالأمس القريب فى انتخابات جمهوريتى بلغاريا ومولدوفا، حيث أزاح حلفاء موسكو من الحكم أعدائها وخصومها الموالين لواشنطن، وفاز مرشح المعارضة الاشتراكية رومين راديف المقرب من موسكو يوم الأحد 13 نوفمبر بالانتخابات الرئاسية فى بلغاريا، على منافسته المدعومة من واشنطن تسيتسكا تساتشيف، وكان الرئيس الروسى بوتين أول المهنئين للرئيس البلغارى الجديد.
وفى جمهورية مولدوفا ( السوفيتية سابقا ) فاز إيغور دودون زعيم الاشتراكيين، والمعروف بميوله نحو روسيا، فى جولة الإعادة فى الانتخابات الرئاسية أمام منافسته مايا ساندو مرشحة القوى اليمينية المطالبة بالتقارب مع الاتحاد الأوروبى وواشنطن .
وهاهى ألمانيا بدأت الآن تتشكك وتثير الأقاويل حول تدخل موسكو فى الانتخابات التى ستجرى قريباً لديها، ويتحدثون عن دعم موسكو لوزير الخارجية الألمانى فرانك شتاينماير لتولى رئاسة ألمانيا خلفاً للرئيس يواكيم غاوك فى الانتخابات المقبلة فى فبراير، ومعروف عن شتاينماير رفضه التام لسياسة العقوبات الغربية ضد روسيا.
هكذا تسير الأمور وتتغير توجهات الرياح السياسية على الساحة الدولية صوب موسكو، ويبقى الدور على العرب الذين اعتادوا على القدوم متأخرين عن الجميع وبعد فوات الأوان كالعادة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة