لم أندهش حينما سمعت هذا النائب الذى هاجم نجيب محفوظ تحت قبة البرلمان، مدعيا أن أديبنا العالمى ورمز فخارنا بين الأمم يستحق الحبس لأنه من «لا» وجهة نظره، لأن مثل هذا لا يملك وجهة نظر، خادش للحياء، وسر عدم اندهاشى هو إدراكى التام أن القيم الجمالية مثلها مثل أى شىء فى الحياة تحتاج إلى حاسة لتدركها، فشم الروائح يحتاج إلى حاسة الشم، وتذوق الأطعمة يحتاج إلى حاسة التذوق، والشعور بالوخز يحتاج إلى حاسة الإحساس، سماع الأصوات يحتاج إلى حاسة السمع، ومن الظلم أن تجبر الأعمى على النظر أو أن نطلب منه وصف مكان ما، كما أنه من الظلم أن نطالب الأصم بالاستماع إلى الموسيقى، وعلى هذا فإنى أعذر تماما هذا النائب، لأنه ببساطة لا يمتلك عينا ترى الإبداع وتقدره ولا يمتلك قدرة عقلية تمكنه من الإحساس بالجمال.
هذا النائب «الكارثة» الذى يطالب بسجن نجيب محفوظ بأثر رجعى يؤكد أننا نعيش حالة مرعبة من أمية المتعلمين، سبقه إلى هذا فى ذلك الكيان المسمى «برلمان» وهو فى الحقيقية «جهل بان» طبيب يطالب بتجريم تجريم الختان دون أى سند علمى، وسبقه آخر أراد الله أن يفضحه فى واقعة استغلال نفوذ بالدعوة لعمل كشف عذرية على جميع بنات مصر، ثم كانت القاضية بذلك النائب المجهول الذى يريد سجن نجيب محفوظ بأثر رجعى والذى ذكرنى بتلك الواقعة الشهيرة للأعرابى الذى تبول فى مسجد الرسول ولما قيل له لماذا فعلت هذا قال: أردت أن أذكر ولو حتى باللعنات.
ذلك الجهل المستقر جعلنى أفكر فيما ستخسره مصر إذا خسرت نجيب محفوظ، وفى الحقيقة فإننى لا أستطيع حصر الخسائر، لكنى على يقين من أننا كنا سنخسر صورة مشرقة حملتها رواياته، وامتدادا إقليميا من المحيط إلى الخليج، وشهرة عالمية طاغية، وأعمالا سينمائية وتليفزيونية تناولت أعماله من المكسيك وأمريكا إلى الصين والهند، ومئات من رسائل الدكتوراه والماجستير فى كبريات جامعات العالم، وحضورا طاغيا فى أذهان الكتاب والمبدعين فى الشرق والغرب، وفلسفة راقية فى الحياة تبثها أعماله، وشعورا وطنيا طاغيا تم تسريبه إلى الأجيال المختلفة عبر تاريخه، وتاريخا اجتماعيا متسربا عبر حبكته الدرامية، بينما إذا ما حذفنا هذا الهراء الذى يتطاول على القامات فلن نخسر شيئا إلا بمقدار خسارتنا لذلك الأعرابى الذى تبول بمسجد الرسول، ولا يضر السحاب صياح النواب.