لابد لنا جميعاً أن نتحمل تناول جرعات الدواء المر مرارة العلقم طلباً للشفاء من الوجع
إذا قررنا محاكمة ومحاسبة المتسببين فى كل «البلاوى اللى عايشين فيه حاليًا»، من تردى الأوضاع الاقتصادية، فلابد أن نحاكم «اليسار» الذين خرجوا فى مظاهرات تخريبية فى يناير 18 و19 يناير 1977، أو ما يطلق عليها انتفاضة الخبز، احتجاجًا على تحريك عدد من السلع، مثل الخبز والسكر والشاى والزيت، وكانت نتائجها كارثية، بدءًا من زيادة عجز الموازنة، وعدم قدرة الدولة على تنفيذ مشروعات البنية التحتية، فلم تعد لدينا تليفونات، ولا طرق مرصوفة، وانهارت قطاعات الصحة والتعليم والإسكان والمرافق، وأصبحت القاهرة والمدن الرئيسية غارقة فوق بحيرة من الصرف الصحى.
وعاش المصريون حالة من ربط الحزام والتقشف الشديد، وصعوبة بالغة فى مواجهة الأعباء، والوقوف فى طوابير طويلة أمام الجمعيات الاستهلاكية للحصول على «فرخة» حتى أوائل التسعينيات، ودفعنا ثمنًا باهظًا من عدم مساندة الدولة فى الإصلاح، عندما تراجع الرئيس الراحل أنور السادات عن قرار تحريك الأسعار، نزولًا على رغبة شعارات «الهجص الثورى».
ولولا الحراك الدولى، واحتلال العراق للكويت، ومشاركة مصر فى تلك الحرب، وحصولها على المقابل، وهو إسقاط جميع ديونها لدى نادى باريس، ثم مساعدتها، لكانت مصر قد أعلنت إفلاسها.
وبعد أن انطلقت مصر بكل قوة نحو التنمية والازدهار الاقتصادى، ووصولها لمعدل نمو %7، وهو الأعلى فى المنطقة، وزادت الاستثمارات بشكل لم يحدث، وحقق القطاع السياحى طفرة كبرى، ووصل حجم الاحتياطى النقدى إلى 38 مليار دولار، لم يعجب الثوريين من اليسار والإخوان، وقرروا الخروج فى ثورة فى شهر «يناير» 2011، وكأن شهر «يناير» يحمل كل الرياح المعيقة والكارثية لازدهار الاقتصاد المصرى.
اندلعت الثورة، وسقط نظام مبارك، ولم يقدم لنا كل الثوار واليسار والإخوان أى مشروع حقيقى يقول لنا إن هناك بارقة أمل، وانهار الاحتياطى النقدى، ووصل إلى معدلات الخطر، وهرب المستثمرون، وأغلقت المصانع، وانهار القطاع السياحى، وانهارت المرافق، وظلت مصر طوال 6 سنوات تعانى الأمرّين.
وبعد ثورة 30 يونيو، وفى ظل أوضاع اقتصادية عالمية معقدة، رأينا دول الخليج تعلن حالات التقشف، وقطر ذات الـ 300 ألف مواطن، تشهد لأول مرة فى تاريخها عجزًا فى الموازنة، ويخرج الطفل المعجزة «تميم» يطالب شعبه بالتقشف، بجانب انهيار الاقتصاد التركى، كانت مصر على المحك، ولابد لها لتبقى، أن تصحح مسارها الاقتصادى، بوضع حلول جذرية، وإبعاد المسكنات التى دمرت وأعاقت انطلاقتها النهضوية.
وكانت هناك معضلة، أن جميع خبراء الاقتصاد فى العالم، والمصريين أيضًا يرون ضرورة التدخل بقرارات موجعة، وهذه القرارات تتطلب إرادة سياسية فولاذية، تتلقى كل الضربات فى صدرها، فكان الرئيس السيسى لها، وضحى بكل المكاسب السياسية فى سبيل إنقاذ وطنه من الانهيار، بعد أن استمع جيدًا لكل خبراء الاقتصاد العالميين والمصريين الذين يتبوأون مكان اقتصادية دولية.
على سبيل المثال، الدكتور محمد العريان، الخبير الاقتصادى العالمى المصرى، وكبير المستشارين الاقتصاديين فى مجموعة «أليانز» الألمانية، أكد أن مصر فى وضع اقتصادى صعب، فى ظل تراجع السياحة، والتحديات التى تواجهها إيرادات قناة السويس بسبب تباطؤ حركة الاقتصاد العالمى، وتراجع المساعدات من الدول العربية، بالإضافة إلى سنوات كثيرة من النمو الضعيف للاقتصاد، ولذلك فهى بحاجة إلى اتخاذ إجراءات مهمة إذا ما أرادت إصلاح اقتصادها بشكل حقيقى.
وقال نصًا: «الإصلاحات الاقتصادية صعبة لكنها فعلًا حتمية»، موضحًا أن مصر منذ 6 سنوات تعيش فى عجز موازنتها بما يمثل أكثر من %10 من الناتج المحلى الإجمالى سنويًا، وهذا يعنى أن الدين فى زيادة مستمرة، وينمو بشكل سريع، كما تنفق مليارات الجنيهات لتغطية وارداتها من العالم الخارجى لتأمين احتياجاتها الأساسية، وهذا كثير جدًا، على حد قوله.
شبكة «بلومبرج» الإخبارية المهتمة بالشأن الاقتصادى، قالت أيضًا إن مصر مضطرة لرفع أسعار المواد البترولية، بسبب اعتمادها على استيراد احتياجاتها من الطاقة، مشيرة إلى أنها تواجه تكلفة تمثل ثقلًا على ميزانية الدولة، ما لم تقم برفع الدعم، لاسيما بعد قرار تعويم الجنيه.
من خلال السرد السابق تكتشف أن مصر دفعت ثمنًا باهظًا للشعارات الثورية غير المنطقية والبعيدة كل البعد عن الواقع، ولابد لنا جميعًا أن نتحمل تناول جرعات الدواء المر، مرارة العلقم، طلبًا للشفاء من الوجع، ولا نستمع من جديد لشعارات «الهجص الثورى» المدمر، تدمير «تسونامى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة