رنين الهاتف أيقظنى من النوم .. تلقيت خبر التفجير بالكنيسة البطرسية ، هرعت إلى هناك ، فى مخيلتى تفجيرات القديسين ، تحولت من مواطن مدنى إلى قبطى قليل الحيلة يشعر بالاضطهاد ، لا أعرف كيف وصلت إلى حوش الكنيسة ،دماء وأشلاء متناثرة ، ارتعشت قدماى غشية أن تدوس على بقايا حياة ،تذكرت الخيام ( فأمش الهوينا أن هذا الثرى من أعين ساحرة الاحورار) ، أيقونة العذراء تحمل المسيح المصاب ،سيدة تنوح ، لهجتها الصعيدية ذكرتنى بنحيب ارامل قريتى ، تشهق الأم وهى تحتضن جسد إبنها " ملحقتش تفرح يابنى " ، من يرسل لها المسيح ليتحنن عليها ويقيم ابنها من بين الأموات مثلما فعل مع ابن أرملة "نائين" ؟
تسبقنى دموع لا إرادية، آشعة الشمس تتوارى فى خجل ، تتسلل فى حياء فوق الدماء، التى رفضت الأرض أن تشربها ،" قام قابيل على هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقابيل: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض" (سفر التكوين الإصحاح الرابع).
تشق دموعى طريقها إلى "الجلجثة"، تقهقرت للخلف،جلست على دكة متهالكة دامية ،لاحظت شيئا يتلوى سابحا فى بحر الدماء ،نظرت من خلف دموعى ،ذراع أحد الضحايا منفصلة عن جسدها ،تتلوى باحثة عن الجسد أو اليد الأخرى ،اعتصر الألم قلبى ،تماهيت مع تلك اليد الوحيدة الباحثة عن الحياة من رحم الموت ،شعرت أن تلك اليد تشبه الأقباط وهم يبحثون عن اليد الأخرى للجماعة الوطنية فى جسد الوطن المتناثر أشلاء من مسجد السلام وحتى البطرسية ، آه يا وطنى إلى متى تحتمل كل تلك المآسى ، عروس المولد تغتصب والفارس راكب الحصان تتمزق أشلاؤه ، واه يا كنيستنا على أكف الوطن تسيرين دوما على درب الآلام من ألفى عام ،من سحل مار مرقص الشهيد الأول إلى صاحب اليد التى بلاجسد ، مرورا بعشرة اضطهادات رومانية ، ولم تهدأ بيزنطة عنا ومن اضطهاد الدين إلى اضطهاد المعتقد ، مرورا بولاة الغزاة فى عصور الاضطهاد المملوكى ، ومازالت السيدة تبكى مع مريم العذراء تحت الصليب فى انتظار القيامة .
تذكرت فجأة مدافن البطارسة بالكنيسة ، تعد الكنيسة البطرسية من أشهر الكنائس المصرية التى ارتبطت باسم مؤسس العائلة البطرسية بطرس غالى الكبير الذى اغتيل بعد حادثة دنشواى ، وكانت العائلة قد شيدتها عام 1911 بجوار قبر الجد بطرس غالى الكبير ، رئيس الوزراء الذى اغتاله الوردانى . الغريب أن بطرس غالى الكبير كان أول رئيس للمجلس الملى العام ، واختلف مع البطريرك كيرلس الخامس فقام بتقديم شكوى للحكومة واتهم فيها البطريرك بالعداء للحكومة والإنجليز وعلى إثرها نفى البطريرك إلى دير البراموس 1890/1891 ، وعاد بعدها وتصالح مع البطريرك و« فك عنة الحرمان الكنسى » ، هنا إلى جوار الأجداد يرقد بطرس بطرس غالى بعد عمر يناهز 94عاما ، قضى منها ثلاثة أرباعها فى خدمة الوطن. وتعد تلك الكنيسة من أشهر المبانى الأثرية وأهم المواقع الدينية فى مصر، وتحظى بأهمية خاصة لدى المؤرخين وعلماء الآثار والكنيسة مبنية على الطراز "البازيليكى"، وتولى تصميم المبانى والزخارف مهندس السرايات الخديوية أنطون لاشك بك. ويعلو صف الأعمدة مجموعة من الصور رسمها الرسام الإيطالى بريمو بابتشيرولى، والذى أمضى خمس سنوات فى تزيين الكنيسة باللوحات الدينية. وتضم الكنيسة فى داخلها العديد من التحف الأثرية النادرة ولوحات الفسيفساء التى نفذها فنانون إيطاليون، مثل فسيفساء التعميد.
سمعت مع آنين الجرحى كلمات المسيح السبعة على الصليب :
الأولى :"ابتاه اغفر لهم لانهم لا يعلمون ماذا يفعلون " (لوقا 23:43).
الثانية :" الحق أقول لك : اليوم تكون معى فى الفردوس" (لوقا 23: 43).
الثالثة :" قال لأمه : " يا امرأة هوذا ابنك " ثم قال لتلميذة يوحنا :" هوذا أمك" (يوحنا 19 و 26). الرابعة : " إلهى إلهى لماذا تركتنى ؟" (متى 27 : 46).
الخامسة :" أنا عطشان " (يوحنا 19 : 28).
السادسة :" قد أكمل " (يوحنا 19 :30).
السابعة :" يا ابتاه فى يديك أستودع روحى " (لوقا 23 : 46).
توقفت اليد عن الحركة ، غامت الشمس ومازالت الأرملة تبكى .