إيمان رفعت المحجوب

معضلة الشر

الإثنين، 19 ديسمبر 2016 11:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

منذ أن تكلم ابيقور عن معضلة الشر والفلاسفة يتكلمون بها! آخر ما قرأت وشاهدت من مناظرات كانت  لعالم البيولوجى الإنجليزى المعاصر ريتشارد دوكنز وهو يعمل فى مجال علم الوراثة وعلاقة الجينات بالتطور، يعتبر هؤلاء الشر نوعين "شر مبرر" أو "شر منطقى"، وهذا بالنسبة لهم مقبول وهو كل شر يأتى من ورائه نفع كأن نعانى ونحن نتمرن كى تشتد أجسادنا، والنوع الآخر "الشر غير المبرر" أو شر مجانى لا يرون فيه فائدة تجنى إلا الألم والمعاناة، ولن أدخل فى الثيوديسيا الدينية التى حاولت أن تجد خيراً ما يعود من وراء الألم والمعاناة، الذى بالطبع لن يتقبله إلا المؤمنون أما غير المؤمنين  فلا يجدون للشر أى مبررٍ مهما كان، وفى رأيهم كان لابد ألا يكون هناك شرٌ بل يعتبرون مشكلة الشر وحدها كافية لدحض فكرة وجود الله لأن فى عرفهم الإله كلى القدرة قادرٌ على منع الشر وألا لا يكون كلى القدرة، وإذا كان كلى القدرة لكنه لا يريد أن يمنع الشر لا يكون  كلى الرحمة كما ذهب ابيقور فى فلسفته، وبصرف النظر عن رأيى، الذى يتلخص فى أن  احتمالات أخرى هناك منها على سبيل المثال لا الحصر أن الشر الذى ترى أنت إن كان من الواجب منعه قد لا يرى الله وجوب منعه لأسباب لديه، وليس من الضرورى أنك تعرفها أو تقتنع بها حسب حساباتك، ولا لأحد كائنا من كان أن يدعى أنه كلى المعرفة  .

 

بعض الشرور طبيعية مثل الزلازل والبراكين وبعضها يتسبب فيها الإنسان بعمد أو بغير عمد؛ فقد أضر الإنسان بالحياة عامداً تارة وتارةً غير عامدٍ ودون أن يدرى أو حتى وهو يرجو النفع بطريق التكنولوجيا والعلم فباستعماله مواد مسرطنة تسبب فى السرطانات، وأدى لحدوث الطفرات الجينية أو التشوهات الجنينية فولد أطفال مرضى ومشوهون لكن هؤلاء يرون أن، مسئولية الله منع هذه الشرور جميعاً حتى ما جنت أيدينا، ففى فلسفتهم أنه طالما هو موجود وكلى القدرة وكلى الرحمة عليه أن يمنع الشر وإلا - حاشاه - يكون غير رحيم وكأنهم يضعون "حرية الإرادة الإنسانية تحت القيد الإلهى" شرطهم لقبول فكرة وجود إله أو بمعنى أبسط لا يكون الإنسان مخلوقاً حر الإرادة! و لو أن  الإله فعل ما يراه هؤلاء واجبا و قيد حرية اختيار البشر وإرادتهم أو سلبها لكنا إذاً ملائكة مطيعة، ولكانت الحياة الدنيا جنة ولكان الخلود ولقضى الأمر!!! علماً بأنه من المؤكد أن مراد الله أن نكون أخياراً لا أشراراً لكن نحن من يأبى!

 

عموما ليس هذا ما أردت تناوله إطلاقاً - أقصد الثيوديسيا - ولن أبرر الشر هذه المرة كما ذهب ريتشارد سوينبيرن على أنه شرط لظهور ما فينا من خير، ولا كما فكر نيتشا فحبب لنفسه المعاناة والألم بأن جعل منهما طاقة إيجابية للبناء والتفوق لأن مالا يقتله يقويه، ورغم أن كل هذا صحيحٌ لكننى سأتناول مشكلة الشر من جانب آخر بيولوجى كتبت عنه فى مقال سابق تناولت فيه معجزة أعظم الشرور التى يتعرض لها البشر، وهى معجزة الفناء أو معجزة الموت، الذى قطعا يأتى بعد الشرين الآخرين "المعاناة والمرض" أعيد نشر مقالى الذى كان بهدف الرد على مقال علمى فى صميم تخصصى يبحث فى تجديد خلايا الجسم التالفة غير القابلة لتجديد نفسها تلقائيا (كالخلايا العصبية وخلايا البنكرياس وحالات فشل النخاع العظمى) عن طريق الحقن بالخلايا الجذعية والتى يضع الطب عليها الأمل فى شفاء الكثير من الأمراض فى المستقبل لقدرتها على إعادة شباب الخلايا والأعضاء ويدخل بذلك الإنسان عصراً جديداً يتمتع فيه بالصحة والشباب الدائم والعمر المديد، وهنا تبادر إلى ذهنى لماذا خُلِقنا على حالنا تهرم أجسادنا ونمرض و نموت؟؟ لنسأل أنفسنا ماذا لو أن الإنسان لا يموت؟ ماذا لو أنه فى أساس تكوينه لا يمرض؟ كان من الممكن أن تميل فيسيولوجيا أجسامنا لتصحيح نفسها بنفسها كلما اختلت فلا تخطئ مسارها إلى العافية! لماذا لم يتكيف جسم الإنسان لا نهائياً وبلا انقطاع للتحقيق التوازن الذى يطرأ فى حال أى وكل خلل كالقاعدة الحياتية التى تقول أن كل شىء فى الحياة يتجه تلقائياً ليوازن نفسه " everything in life tends to equilibrium "  فلا يولد فى هذه الحال مريضا من الأساس فجسده قادر على تصحيح نفسه ولا يستجد كذلك مريض بعد عافية؟ ماذا لو لم تكن خلاياه تهرم وتنتحر بعملية الـ(apoptosis) فتتوقف أعضاؤه وأجهزته عن العمل؟ وماذا لو كانت كل خلاياه متجددة مثل الخلايا الجذعية؟ كيف كان ليكون حال الأرض الآن إذا ظلت كل الكائنات حية من قبل عصر انقراض الديناصور منذ أكثر من خمس وستين مليون سنة أو من قبل ذلك منذ عصر الانقراض البرمى الترياسى أو "عصر الموت العظيم" قبل 250 مليون سنة! لولا حدوث الكوارث الطبيعية لبقت هذه الكائنات ولما استطاع الإنسان البقاء!! أو تخيل حتى لو ظل البشر أحياء منذ مئة وخمسين أو مئتى ألف عام حسب عمر الإنسان كما تقدره الدراسات الأنثروبولوجية؟؟ طبعا أقصد على كوكبنا هذا، وبحالنا هذا وواقعنا هذا ولا يفترض أحدٌ واقعاً غيره كأن تكون الأرض أكبر مثلاً وإنما نحن نبحث ما هو حادث بالفعل، طبعاً الإجابة: كنا لن نجد مكانا للوقوف على ظهر الأرض! وبالطبع لن يكفينا الطعام فسيأكل بعضنا بعضا ثم تتجمع أجزاؤنا ونعود من جديد؛ ذلك لأننا لا نموت فكل خلية تعيد نفسها ولها القدرة على إيجاد الحياة مثل أفلام الخيال العلمى The terminators .

إليكم مثال علمى حى من واقع عملى وهو أن كل خلية من الخلايا الدائمة التجدد فى جسم الإنسان مثل خلايا الدم والجلد والأغشية المخاطية وغيرها تهرم بعد عمر معين فكان لابد التخلص منها، ولذلك لها مكان مخصوص تنتهى إليه بعد أن تنتحر! يعنى خلايا الدم النافقة تذهب إلى الطحال حيث تلتهمها خلايا خاصة فتندثر   sequestered or phagocytosed by the macrophages  ولو لم يتم التخلص من الخلايا الهرمة أو النافقة لكان ازدحم العضو المصنع بخلايا هرمة لا تعمل وهناك خلايا تهرم ولا تتجدد ومع ذلك تبقى هى المكون للبعض الأعضاء ولذلك يهرم الإنسان، مثال آخر أن كل الخلايا تقوم بعمليات حيوية طوال الوقت عن طريق إنزيمات، فى بعض الحالات المرضية تنقص بعض الإنزيمات فليس فقط تتعطل العملية الحيوية المنوط بالإنزيم عملها فيحدث المرض، لكن تتأثر عملية تنظيف الخلية إذ تتراكم بداخلها بعض المنتجات لعدم استكمال دورة البناء الحيوى (الميتابوليزم Metabolism ) كما نرى فى أمراض الـ( lipoid storage diseases )  فيتغير شكل الخلايا وتنتفخ بالنفايات لعجزها عن إخراجها وتصبح عاجزة عن أداء وظيفتها أو كفى حال السرطان إذ تستمر عملية بناء خلايا جديدة بلا انقطاع ينتهى بفشل العضو الذى تتجمع فيه الخلايا فمثلا فى سرطان الدم يزيد نوع معين من كرات الدم البيضاء أو الحمراء وتحتل النخاع العظمى كله حتى تجور على الخلايا الطبيعية فلا تتمكن الخلايا الطبيعية من أداء وظيفتها أو من أن تتكون من الأساس أردت أن أعطى صورة حية كى نتخيل حال الدنيا لو كنا لا نموت أو لم نمت منذ مئتى ألف سنة! فبعد قراءتى فى علم التطور وعلم الوراثة وصلت لأن الإعجاز الأكبر منذ بداية الخلق هو التخطيط للفناء فإذا اقتنع من لا يؤمنون بنظرية الخلق أن هذا النظام المحكم الذى عليه الحياة هو محض صدفة ساقت اليها تباديل وتوافيق وصولا إلى ما أطلقوا عليه الانتقاء الطبيعى( natural selection )  أو ذكاء المادة، ونظرا لأن البقاء للأصلح ( survival for the fittest )  بقى كل من وما كان ملائماً أو متلائما مع الظروف الموجودة بعد هذه السلسلة اللانهائية من عملية التباديل والتوافيق بمحض الصدفة أثناء حركة الأجزاء البحثية عن مكملاتها complementary  ! وقد طرحت فى السابق سؤالا هو: "إذا كان ذلك كذلك ما الذى أوجد قوانين طبيعية تجعل لكل جزئ طاقة مما يجعله فى حركة مستمرة ويتحتم عليه الالتقاء بالجزئ الآخر المكمل أو المتكامل وما الذى جعل القاعدة هى تجمع الشتات ما الذى أوجد الانتقاء الطبيعى أساسا ولماذا وجد؟ وإذا وجدنا الإجابة على هذا بأنها تجارب واحتمالات لا نهائية حتماً تنتهى بتوافق بعض الجزيئات وتكاملها فنتج البروتين البشرى فيأتى سؤلٌ منطقى آخر بما أن الموضوع ذكاء المادة والانتقاء الطبيعى ( natural selection )  أين من انتقاء المادة والـ ( natural selection )  الإنسان الخالد؟ لماذا لم تنتق لنا المادة والطبيعة من ضمن الاحتمالات اللانهائية حتى الآن ومنذ بلايين السنين مخلوقا تاما خالدا على سبيل الصدفة على طريقة البقاء للأصلح؟؟؟ إذا كان الكون والحياة لغزاً معجزاً فإن من المعجز فى الكون أيضاً وفى الحياة عموما فيسيولوجيا الموت وميكانيزم الفناء لأن بدونه لم تكن تستقيم الحياة على الأرض! فليفسر لنا علماء ذكاء المادة والانتقاء الطبيعى العشوائى الذى حدث بالصدفة دون فكرة أو إرادة تحكمه سببا أنه لم تخلق الصدفة إنساناً أو كائناً لا يموت؟ التطور حقيقة لا جدال فيه وذكاء المادة والانتقاء الطبيعى حقائق أيضاً لكن لا يمكن أن نغفل أن هناك إرادة ما وراء نهج الطبيعة جعلت مثلاً بعض أنواع الحيوانات أسرع توالدا من الإنسان، وفى نفس الوقت جعلتها أقصر عمراً منه بينما جعلت من الأشجار ما يعيش آلاف السنين والسماوات والأرض والبحار والجبال والشمس والقمر والطبيعة يستمرون منذ بلايين السنين  فالذى جعل هؤلاء مستمرين لماذا جعل الإنسان أقصر عمراً لو أنه ذكاء المادة لِمَ لَمْ تفعل المادة الذكية الإنسان أو الكائن الخالد كذلك وكان بإمكانها بسلسلة التجارب اللانهائية أن توجده بطريق الصدفة، لَكُننا قطعاً وجدناه لأنه كان ليكون خالداً بيننا لا يموت! أ لأنها ليست ذكية بما فيه الكفاية؟ أم أنها أذكى مما يخطر ببالنا فصنعته منقوصا بغرض !


 

عندما يكون النقص حكمة أو لنقل الشر حكمة ...تعددت الأسباب والموت واحد!
 

ويبقى الموت "حقيقة وضرورة ونظام" الهدف من مقالى أنه رغم أنه كان من الممكن ألا يكون المرض والموت موجودين بأن تكون المخلوقات (الإنسان والحيوان) خالدة؛ وهذا احتمالٌ لابد من تصوره مع نظرية الاحتمالات اللانهائية والصدفة وذكاء المادة والانتقائية والبقاء للأصلح؛ بأن تكون فيسيولوجياً مثل البكتيريا والفيروسات والفطريات وبويضات الطفيليات أو حتى كقنديل البحر فكلها كائنات معمرة  لا تموت إلا بفعل خارجى، لكن حتى هذه فى حد ذاتها بطبيعتها الفيسيولوجية التى ضمنت لها البقاء والاستمرار صنعت على هذا النحو لتقاوم لأنها أريد بها أن تلعب دوراً مهما فى الأمراض التى تسبب موت الكائنات كبيرة الحجم فى توازن لا يمكن وصفه بالعشوائية ..

* أستاذ بقصر العينى

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة