يحيرنى بعض العلماء المصريين فى الخارج حين يدلون بدلوهم فى قضية التعليم بمصر، حيث يفتحون النار بأثر رجعى على نظام المجانية رغم أنهم استفادوا منه كاملا. وينكرون واقعا قديما حين يتحدثون عنه، أما الواقع الحالى فهم منفصلون عنه تماما، أى أنهم يجلسون فى أبراج عاجية، ولا يعرفون شيئا عن هؤلاء الذين تتعفر أقدامهم بالتراب فى قرى مصر من أجل تربية أبنائهم، ويتحدثون وكأن الفقر الذى يدفع أهله إلى الدراسة فى التعليم العام هو بصنع أيديهم وقدرهم الذى لا فكاك منه.
نعم هناك مشكلة حقيقية فى التعليم بمصر، وليس من الصحيح أن نطالب الذين تعلموا بفضل المجانية الصمت أمام سلبياتها، فهذا نوع من الوفاء الذى يهدم، لكن لا يصح فى نفس الوقت أن عالما مثل الدكتور فاروق الباز يقدم وصفته الدائمة للنهوض بالتعليم فى مطلب أساسى وهو، «أن يكون التعليم المجانى للمرحلة الابتدائية فقط، ومجانى لمن يريد أن يكمل فى التعليم الفنى، أما من يريد أن يكمل فى التعليم العام فعليه أن يدفع المقابل حتى يعرف قيمته»، وذلك كما قال قبل أيام فى برنامج «يحدث فى مصر»، مضيفا «أن جزءا من المجانية سبب خراب التعليم فى مصر».
يطرح «الباز» وصفته بينما هو تعلم بالمجانية فى مصر، وسافر إلى أمريكا وأصبح واحدا من علمائها ليس بفضل ما حاز عليه فى أمريكا من علم وتعليم وفقط، وإنما أولا بفضل تعلميه فى مصر من ابتدائية إلى ثانوية ثم الجامعة، وكله بالمجان.
يتحدث «الباز» ومعه كل أصحاب وجهات النظر المماثلة لوجهة نظره، بطموح أن يكون مستوى التعليم عندنا فى مستوى الدول المتقدمة، وهذا حلم لا يطعن فيه كل حالم بالخير لمصر، ولكن ما يحير أن هؤلاء مثلا لا يتحدثون عن أن التعليم مجانى وإلزامى حتى قبل الجامعى فى دول مثل ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وأمريكا، وفى نفس الوقت فإن هناك بيئة قانونية واقتصادية وسياسية، لا تجعل من الإنفاق الخاص على التعليم فى المراحل التالية مشكلة صعبة، وهو ما يدفعنا إلى القول بأن إصلاح التعليم هو قضية اجتماعية وسياسية واقتصادية، وليست فقط قضية فنية، ولهذا فمن العدل ألا نحاكم المجانية لذاتها، وإنما نحاكم المتسبب فى تدهور التعليم.