د. مجدى عاشور

تجديد التفكير الديني (16) ليس لأحدٍ أن يكونَ مصدرًا للتشريع

الأحد، 25 ديسمبر 2016 12:36 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إن التشريعَ الإسلامى له خصائصُ ومُكوَّناتٌ تدلُّ على أنه أمرٌ ربانى لا دَخْلَ لبشرٍ فيه، خاصة فيما يتعلق بالاعتقاد أو أصول العبادات وكثيرٍ من مسائلها التى ليست بتوقيفيةٍ، وكذا أصول المعاملات التى تربط الإنسانَ بأخيه بل بالكون كله، وينسحب ذلك أيضًا على القيم والأخلاق التى جاءتِ الشريعةُ لغَرْسها وسَقْيِها ونَمائها، تحقيقًا لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»(رواه ابن حبان وأحمد بنحوه).

 

ولما كان التشريعُ بهذا الشأن العظيم، لم يرضَ اللهُ عز وجل لأحدٍ أن يتدخَّل فيه مهما بلغ شأنه وشَأْوُه، ليظلَّ ربانى المصدر، واسعَ العطاء، مأمون الجانب، محفوظ النبع والأصل، فريد النسيج، يشمل مجالات الحياة، ويُسعِد الإنسانَ فى دنياه ويصل به إلى مرضاة الله فى أخراه. حتى أن ما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك الشرع الشريف، وأقصد ما ذكره فى الأحاديث النبويَّة وعمله فى سيرته العطرة، ما هو إلا وحى من ربه، سواءٌ أكان باللفظ كما هو شأن القرآن الكريم والأحاديث القدسية، أم بالمعنى كما فى الأحاديث النبويَّة، القوليَّة منها والفعلية، ودليل ذلك قولُ الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. أن هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى} [النجم: 3، 4]؛ إذ وظيفته الأصيلة كرسولٍ ونبى، أنه مُبيِّنٌ لكلام الله سبحانه، كما قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ولذلك يقول الإمام الشافعى: إن كلَّ ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم، هو مما فهمه من كتاب الله عز وجل. (الإتقان للسيوطى 4/28).

 

وبهذه الآيات السابقة كلها، تتحقق عصمة النبى صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يُتصَوَّر وقوعُ خطأٍ منه فى التشريع. فكان المبلِّغَ الصادقَ الأمينَ، الواعى الفَطِنَ عن ربِّ العالمين، وهذا مما يُطَمئن القلب ويشرح الصدر ويُريح البال، ثم يتبع بعد ذلك العملُ والجِدُّ والاجتهاد فيما كفله الله تعالى لنا من هذه الشريعة الغراء على يد رسوله الخاتَم صلى الله عليه وسلم. ولكلٍّ مما سبق كان للتشريع مصدران أصيلان لا ثالث لهما، هما: القرآن الكريم، والسنة النبويَّة الشريفة.

 

وتعدَّدت مصادر الأدلة الآخذة من هذين المصدرين، وعلى رأسها الإجماع والقياس، عند جماهير العلماء. واختلفوا بعد ذلك فى تعداد مصادر الأدلة، كالمصالح المرسلة، والاستحسان، والأخذ بقول الصحابى، واعتبار عمل أهل المدينة فى العصور الأولى، والأخذ بأقل ما قيل... وغيرها من المصادر الـمُختلَف فيها بين علماء أصول الفقه. وبهذا المعنى، فإن الاجتهادَ عند التحقيق ليس مُنشِئًا للتشريع، وإنما هو كاشفٌ له من خلال الاعتماد على نصوص الوحى (القرآن والسنة)، أو على القواعد المستنبَطة منهما، تلك التى تحكم حركةَ فِكْر المجتهد وذهنه وقت اجتهاده؛ ليتخلص عمله فقط فى رَبْط ما هو حادثٌ وجديدٌ بأصول التشريع نصًّا أو قواعده استنباطًا.

 

وهذا هو دَأَب المجتهدين فى كلِّ عصر، مع عدم رؤية أنفسهم مصدرًا من مصادر التشريع، ومن ثَمَّ لم يُقدِّسهم أحدٌ أو يرفعهم عن البشريَّة، فَضْلًا عن أنهم بناءٌ متكامل مع مَنْ سبَقَهم، فلا يَدَّعون التفرد أو الانعزال أو التعالى أو الخروج عن المنهج أو المدرسية التى تربوا عليها. إذ لم تأتِ إلينا الاجتهادات عبر أشخاص، وإنما عن طريق مدارس وشخصيات اعتبارية، نسميها مذاهب أو مناهج أو طرق تدريس، المهم أنها جهودٌ جماعيَّة وليست فرديَّة؛ لأنها تخص المجموع، ومن ثَمَّ لا تخضَع لأهواءٍ أو نزغات أو رغبات؛ ولذا كانت صائبةً ومرتبطةً بمصالح الخلق مع مراعاة مقصود الخالق سبحانه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَعَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» (رواه أحمد).

 

والإجماع يأخذ مشروعيته وحجيته من هذا المعنى؛ ولذلك إذا ثبت الإجماعُ وجب الأخذ به، ليس لكونه إجماعًا من العلماء المجتهدين المعتبَرين فى زمنٍ ما على مسألةٍ ما فحسب، وإنما أيضًا لأنهم يعتمدون على معنًى فهموه من أحد مصدرى التشريع أو من كليهما، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِى عَلَى ضَلَالَةٍ»(رواه أحمد). ولما غابت هذه المعانى كلها عن أذهان فئةٍ عبر التاريخ الإسلام الفسيح، بدأت ترفع بعض العلماء إلى رتبة الممتلك للحقيقة وحده، والذى لا يصح مخالفتُه أو أَخْذُ رأى غير رأيه.

 

وابتُليت الأمة بشيء من ذلك فى مسارها العقدى والفقهى، ابتداء من الخوارج الذين ضلوا الطريق وضلَّلوا غيرهم فانضموا إليهم، ثم كفَّروا من لم يأخذ بأقوالهم الشاذة وحاربوه وناصبوه العداء، واستحلوا دمه وعرضه وماله؛ بل استباحوا الوطن الذى حملهم وتربوا على خيراته. واستمرت هذه الفئة الباغية فى الظهور بين الأجيال المختلفة بصورٍ شتى، ولكن أصولها واحدة فى الغرور والبغى والاعتداء والكراهية والانتقام، حتى كان عصر الشيخ ابن تيمية رحمه الله، حيث خالف هو نفسه جمهور العلماء فى مسائلَ عقديةٍ وأخرى فقهيَّةٍ يدخل تحتها أشياء من السياسة الشرعيَّة.

 

واعترض العلماءُ الأفذاذ رحمهم الله تعالى عليه فى تلك المسائل، وفنَّدوا أقواله، وهو وإن أحدث مشكلاتٍ، إلا أن تابِعِيه أحدثوا ما هو أشدُّ؛ إذ قلَّدوه عن جهلٍ تارةً وعن عصبيَّةٍ تارةً أخرى. فنتج عن ذلك أنهم خرجوا عن أقواله واتباعه، وصاروا أشدَّ ضراوةً وأشرس عريكةً، حتى وصل بهم الأمر إلى أنهم استقلُّوا بآراءَ لم يَقُلها أحدٌ، وخالفوا كلَّ العلماء حتى ابن تيمية نفسه. فعلى سبيل المثال نجد أنه حين أُسِر بعضُ المسلمين وإخوانهم من أهل الذمة- بمصطلح ذلك الزمان قبل اعتماد مفهوم المواطنة- فى زمن ابن تيمية، وكان هو من الـمُفاوِضين لفَكِّ الأسرى، خاطبه مَلِكُ الرُّومان وراوده أن يأخذ الأسرى المسلمين ويترك غيرهم، فقال ابن تيمية قولته الشهيرة: (أهل ذمتنا قبل أهل ملتنا)(مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/617). وهذا ما يحدث عكسه الآن من الجماعات الإرهابية، التى تقتل من خالفهم فى الرأى من المسلمين، فضلًا عن غير المسلمين، لمجرد أنهم غير مسلمين، من دون مراعاة لعهدٍ أو دينٍ أو مواطنةٍ أو إنسانيَّة.

 

إذًا، فقد تجاوزوا ابن تيمية نفسه- مع كوننا نخالفه فى بعض المسائل الكبرى- وجعلوا من أنفسهم مصدرًا للتشريع، يُشرِّعون ما يرونه ويقضون به وينفذونه فى أن واحد، حتى أطلقنا عليهم من حيث التشدد فى المنهج «تيميون أكثر من ابن تيمية». وقد استنَّتِ الجماعاتُ المتطرفة الآن المنهجَ نفسه فى تقديس بعض الأشخاص والأخذ برأيهم دون غيرهم، حتى ولو خالفوا جماهير العلماء والمسلمين، ثم بعد ذلك خرجوا عن ذلك الشخص المتبوع واستقلوا بآراء أكثر تشددًا؛ لأنهم فقدوا المعيار والمنهج، وانسلخوا عن المعنى المدرسى العقدى والفقهى باعتبار العلوم نشأت عن مدارس لا أفراد، وأن العلمَ لا يعرف الشخصيَّة الطبيعية الفردية، بل يعتمد الشخصيَّة الاعتبارية المتمثلة فى المدارس والجامعات ومراكز البحث والهيئات المختصة. ولا رجوع لهذا المنهج الصحيح الممتد عبر التاريخ الإسلامى والإنسانى، إلا بالرجوع إلى أدواته وقواعده من خلال المدارس والمعاهد الوسطية المعتدلة، والرجوع إلى مفهوم ومعانى المدارس الفقهيَّة المعتبَرة، والابتعاد عن تقديس الأشخاص فراداى مهما بلغوا فى درب العلوم وطريق التربية.

 

ولذلك جاءت الآيات المتعلقة بالتخصص بصيغة الجمع وليس بصيغة المفرد، لتشير إلى هذا المعنى الجمعى الذى أوردناه، فقال سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أن كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[النحل: 43]، وقال تعالى:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أو الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء: 83].










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة