مع تسليمنا بأن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة صحيحة، وكانت مطلباً لجميع الخبراء الاقتصاديين منذ فترة طويلة لوضع مصر على الطريق الاقتصادى الصحيح، وأن تعويم الدولار مهم للغاية لتطبيق آليات السوق، وعامل جذب كبير للاستثمارات الأجنبية، إلا أن الواقع يؤكد أن هذه الإجراءات لم يتوازَ معها خطة اقتصادية حكومية تستغل هذا الأمر فى تصحيح المسار الاقتصادى، وضخ استثمارات تعود بالجدوى والفائدة على خطة التنمية الشاملة التى تخرج مصر من النفق الصعب إلى آفاق تنموية أرحب وأفضل وتعود بالخير على المواطن المصرى .
وبعد القفزات الكبيرة للدولار أمام الجنيه منذ قرار التعويم، لا يخلو حديث بين اثنين أو أكثر من المصريين من طرح سؤال بديهى: "إلى أين يأخذنا الدولار؟"، بعد أن اكتوى أبناء الشعب بالارتفاع الجنونى وغير المبرر له، ما أدى إلى ارتفاع موازٍ وأكثر جنونا للأسعار، وبكل أسف ، الارتفاع طال كافة السلع والمنتجات، بداية من الخضراوات، ومرورا بالمواد الغذائية كالسكر والزيت والسمن، وأيضا العقارات والسيارات،وانتهاءً بخامات تشغيل المصانع والورش، حتى السلع التى لا ترتبط مباشرة بالدولار كالخدمات، ارتفع سعرها أيضا.
وناهيك عن تأثير أسعار السلع التى وصل بعضها إلى الضعف، على المواطنين فى البيوت، وعلى ميزانية الأسرة المصرية، فإن هناك جانبا يمثل خطورة أكبر، ويجب الإسراع بوضح حل له، ألا وهو الارتفاع المبالغ فيه فى أسعار السلع والخامات التى تستخدمها المصانع الصغيرة والورش، والتى يعمل بها عشرات الآلاف من العمال والموظفين ، ينفقون على آلاف الأسر، حيث قام التجار برفع اسعار بضاعتهم إلى ثلاثة أو أربعة أضعاف، دون رقيب أو حسيب، حتى اضطر الكثير من هذه الورش والمصانع إلى إغلاق أبوابها وتشريد عمالها، بسبب عدم القدرة على مواجهة الأسعار التى أدت إلى زيادة أعباء تكلفة المنتج إلى 4 أضعاف، وهو ما يقتل المنتج المحلى، ويفسح المجال للمنتج المستورد، الأمر الذى يعنى فشل السياسات الاقتصادية التى تقوم ركيزتها على ضرورة دعم وتشجيع المنتج المحلى، كى يتم الاستغناء عن المنتج الأجنبى وبالتالى توفير مليارات الدولارات التى تنفق فى استيراد سلع من الخارج.
الأزمة التى يمر بها الجنيه سببها الأهم والأكبر السياسات العقيمة والخطوات غير المدروسة التى قام بها طارق عامر محافظ البنك المركزى، فالرجل لم يستغل الفرصة الذهبية لتعويم الجنيه لوضع خطط جذب للعملة الأمريكية، ولم يستطع تنفيذ تصريحاته الإعلامية التى قال فيها: "إن تحريك سعر صرف الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى من 7.73 جنيه إلى 8.85 سيجذب الاستثمارات عبر إغراء رجال الأعمال الأجانب لجلب استثماراتهم فى مصر فتدور عجلة الاقتصاد، وساعتها يصبح سعر صرف الدولار بـ4 جنيهات"، ولكن كلامه ذهب هباءً، فلا المستثمرون جاءوا بدولاراتهم، ولا سعر الدولار انخفض إلى 4 جنيهات كما بشر محافظ البنك المركزى، وهو الأمر نفسه الذى تكرر مرة أخرى بعد 6 شهور، عندما تم تحرير سعر الدولار ووصل إلى 13 جنيها، وأكد "عامر" أن الفرصة مواتية لضرب السوق السوداء، والسيطرة على سوق الصرف، ووعد بأن سعر الدولار سينخفض إلى أقل من 8 جنيهات، إلا أنه كالعادة، ذهبت وعوده أدراج الرياح، وبدأت الأمور تفلت مرة أخرى من المسئول الأول عن سوق الصرف الأجنبية فى مصر، وواصل الدولار ارتفاعه الجنونى غير عابئ بكلام طارق عامر، حتى قارب على أن يصل إلى 20 جنيها، لينخفض سعر العملة المحلية إلى أقل من النصف، وهو ما يعنى أن الجنيه على وشك الانهيار، ويفتح المجال للفزع من انهيار آخر للعملة المحلية وما يتبع ذلك من ارتفاع جنونى للأسعار، ويزيد من معاناة المواطنين، وخاصة محدودى الدخل .
وفى مفاجأة من العيار الثقيل، وكالعادة، تراجع طارق عامر محافظ المركزى عن تصريحاته حول القرضين اللذين تلقتهما مصر من البنكين الدولى والإفريقى بقيمة 1.5 مليار دولار، بواقع مليار دولار من البنك الدولى و500 مليون دولار من البنك الإفريقى، مؤكدا أن القرضين لن يدعما الاحتياطى النقدى بالبنك المركزى، رغم تصريحه بذلك فى السابق، مشيراً إلى أن القرضين سيستخدمان فى سداد التزامات على الحكومة، وهو الأمر الذى يزيد من التشاؤم ومستوى الأحباط حول الوضع الاقتصادى للبلاد .
الحقيقة التى باتت لا تقبل الشك أيضا أننا دخلنا فى دوامة لا نعرف طريقاً آمنا للخروج منها، فلا ندرى إذا كان قرار تعويم الجنيه الغرض منه - كما حدثنا السيد طارق عامر المسئول الأول عن الصرف الأجنبى فى مصر - محاولة لضرب السوق السوداء واجتذاب المتعاملين بالدولار "المفترى"، أم أنه قرار متسرع غير مدروس، كما لا نعرف إن كان هذا التخفيض سيكون فى صالح الاقتصاد المصرى أم أنه يزيد المشهد ارتباكاً وفوضى، بل إن الأزمة الكبرى تتمثل فى عدم معرفتنا "هل سيواصل الدولار ارتفاعه أمام الجنيه، أم سيقف عند حد معين ؟".
واستكمالاً لتخبط الحكومة وارتباكها، لم يكلف مسئول خاطره ببث بعض الأمل والتفاؤل للمواطنين ، فإذا كنا نريد ونحاول إقناع المواطنين بأن هذه الإجراءات حتمية وبمثابة "الحقنة" التى تأتى ضمن أجندة الإجراءات المؤلمة التى أخبرنا بها المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء على أمل أن يؤدى ذلك إلى تدوير عجلة الاقتصاد بتقديم حوافز استثمارية لجذب المستثمرين، إلا أن المثير فى الأمر، عدم خروج أى مسئول، يتواضع ويشرح ويخبر الناس عن إجراءات وقائية تتخذها الحكومة تحمى محدودى الدخل من أى صعوبات معيشية ناتجة عن تلك الإجراءات الاقتصادية الحتمية، لتكون موازية لتلك الإجراءات الضرورية، وتعطيهم الأمل فى مواجهة موجة الأسعار النارية التى ضربت الأسواق مؤخرا.
يعلم كل مصرى أن الظروف المحيطة فى غاية الصعوبة، وأن الكثيرين يتربصون بنا، وأن دفاعنا عن استقلال قرارنا وكرامتنا وعزتنا زادت من كمية الحقد علينا، وزادت من عدد أعدائنا، حتى أن بعض من يقترض أنهم أشقاؤنا، اختاروا خندق الأعداء، لرفضنا قبول أى إملاءات تنتقص من سيادتنا وكرامتنا، ويعلم كل وطنى مخلص لبلاده أن التحدى كبير، وأن علاج الفساد واللامبالاة والإهمال والتسيب وغيرها من الآفات التى تجذرت فى المجتمع طوال الـ 6 عقود الماضية لن يكون بالأمر السهل، بل يتطلب التضحية والصبر، إلا أن الجميع ينتظر من الحكومة الإسراع بوضع حلول عملية لإيقاف انهيار الجنيه، والحد من الارتفاع الجنونى للدولار، والذى يتبعة ارتفاع أكثر جنونا فى الأسعار، وعدم الاعتماد على وعود طارق عامر البراقة التى لا تسمن ولا تغنى من جوع .