ما أحوجنا لنقد الفكر الدينى ما بين المسجد والكنيسة والواقع الذى يئن من موت الأحزمة الناسفة
فى يوم واحد مرت ثلاثة أحداث، عزاء الطفلة ماجى مؤمن، وأربعين مجدى مكين، ومقال إلياس خورى فى رثاء صادق جلال العظم، بالصدفة وكعادتى أتصفح صفحات أصدقائى فى الفضاء الإلكترونى الذى يخفف وجع اللقاء فى الواقع، وكمن يمر على بيت الحبايب، مررت على صفحة صديقى الدكتور إيمان يحيى، من أصدقاء الزمن الجميل والجنوب اللبنانى المقاوم، صدمت حينما وجدت مقال الكاتب والأديب إلياس خورى: «من يرثى من» يقول فيه: «إننى أقف إلى جانب موتين، موت المفكر السورى الذى احتلّ مساحة كبيرة من وعى جيلنا، وموت جيلنا الذى يتجسد فى حمام الدم السورى الذى لا نهاية له».
مَن يرثى مَن؟ هل يستطيع الأموات رثاء الأموات؟ أليس الرثاء حيلة الأحياء كى يَرِثوا الموتى؟ من يَرِث اليوم وماذا يَرِث، وركام حلب يغطينا، وأنين المدينة الذبيح يحتلنا.
«مات صادق بلا رثاء، لن نلفه بالكلمات التى نفدت، وبالعبارات التى لم يعد تكرارها مجدياً، مات السورى المنفى بصمت وكبرياء. سمعت صمته ورأيت كبرياءه مسجى إلى جانبه فى السرير، وأحسست بحاجة إلى دموع لم تعد تأتى لتبلل الحزن بماء الحياة. كلماتنا جفت ودموعنا تلاشت». فى صفحة مجاورة.. فيديو شيره معظم الأصدقاء عن والدة الطفلة ماجى التى استشهدت فى تفجير الكنيسة البطرسية الأسبوع الماضى، تحكى الأم أنشودة الألم دون دموع، والتعليقات من حولها تتناثر «مع المسيح ذلك أفضل جدا»، «السماء تخفف آلامك»، «يايسوع فادينا»، «اختارت النصيب الأفضل».
وعلى صفحة أخرى نشر تقرير الطب الشرعى حول تعذيب الضابط كريم مجدى للضحية مجدى مكين حتى الموت: «وانتهى التقرير النهائى للطب الشرعى، المؤرخ فى 6 ديسمبر الجارى، إلى أنه استنادا للكشف الظاهرى والصفة التشريحية والفحص النسيجى والفحص الكيميائى للعينات المأخوذة من جثمان مجدى مكين خليل، فإن الإصابات الموصوفة بالكشف الظاهرى من سحجات غير منتظمة الشكل تقع بأقصى يمين العنق أسفل صوان الأذن اليمنى وحتى يمين منبت الشعر الخلفى، وسحجات شبه دائرية الشكل تقع يمين الجبهة وأعلى الحاجب الأيمن بقطر حوالى 3 ملم وحتى 7 ملم، هى سحجات ذات طبيعة ردية حدثت من الضرب أو المصادمة بجسم صلب خادش أيا كان نوعه.
فجأة وإن كان إلياس خورى يقف إلى جانب موتين، أجدنى أقف أمام ثلاثة أنواع من الموت، موت ماجى وخمسة وعشرين شهيدا فى تفجيرات كنيسة البطرسية أثناء الصلاة، وموت مجدى مكين تحت التعذيب فى قسم شرطة الأميرية، وموت المفكر السورى العظيم صادق جلال العظم متأثرا بمرض السرطان فى غربة بأحد مستشفيات برلين.. وتوقفت أمام كلمات إلياس: «وصارت كرامتنا تشبه كلاباً ضالة تحاول اللحاق بمهجرى سوريا وضحاياها الذين يمضون إلى موتهم وغربتهم وسط طنين الصمت الذى يغلّف هذا الزمن بضجيج الهمجية».
لم يعد الواقع يتسع صدمة البطرسية فقرر الأقباط أن يتوجهوا إلى السماء، بحثا عن مخلص افتقدوه على الأرض، أو أب معزٍ فى الكنيسة.. نعم يا صديقى إلياس، شاهدت والدة ماجى وهى تتحدث عن الموت بلغة الحياة وكلماتها جفت، ودموعها تلاشت فى كبرياء.. لا يعرفه من لا شهداء لهم.
أجدنى أتذكر أهم كتابات جلال العظم «نقد الفكر الدينى»، بعد أن صار الفكر الدينى سيفا للقاتل وأنشودة للضحايا، ما أحوجنا لـ«النقد الذاتى للهزيمة» هزيمة جيلنا ومشاريعنا، جيلنا الذى لم يجد مكانا لنقد الفكر الدينى ما بين المسجد والكنيسة، أو نقد الواقع الذى يئن من موت الأحزمة الناسفة، ونحن نبحث عن الدموع فى المآقى، فلا نجد إلا أن نغسل ضمائرنا بدماء الضحايا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة