ينصح جبران خليل جبران فى كتابه النبى الآباء فى تربية أبنائهم فيقول:
" أنتم الأقواس ينطلق منها أبناؤكم سهاماً حية
والرامى يرمى الهدف قائما على طريق اللانهاية
ويشدكم بقدرته حتى تنطلق سهامة سريعة إلى أبعد مدى
وليكن انحناءكم فى يد الرامى عن رضاً وطيب نفس
لأنه كما يُحَبُ السهم الطائرُ
كذلك يُحَبُ القوس الثابتة "
التربية والتنشئة علم على أهميته لسنا نعيره اهتماما فى مصر، فنشأة الإنسان تظل فى تكوينه الشخصى يحيى بها وتعيش فيه إلى الأبد وعلى ذلك هو علم لا نَدْرُسه كما انَّا لسنا على دراية به ولا هو فى ملكاتنا ولا دائرة اهتماماتنا من الأساس فالأب والأم فى الأسرة المصرية يظنان أن تكون تربية الأبناء على الطاعة لا غير ! يخلطون بين تربية الأبناء وصنع العبيد لا مناقشة ولا إقناع بما يقولون أو إقتناع بما يقول الأبناء. لا تمنع التربية السليمة أبداً نزول الآباء مرات على رأى الأبناء فليس على الأبناء الرضوخ لرأى الآباء طوال الوقت طوعا وكرها لأن ذلك سينتج شخصيات طائعة لا رأى لها أغلب الوقت أو شخصيات هم دائما لجبهة الرفض منتمون لا يتفقون مع شئ وكل رأى عندهم مرفوض ! وهؤلاء يصعب التعامل معهم صغاراً وكباراً. وكذلك نظام تعليم فى مدارسنا وكأنه أسس ليرسخ لقتل كل الملكات والمواهب وكبت الشخصية بأسلوب الحفظ والتلقين والتحذير من الإبتكار والخروج على النص.
لم أترب أنا على هذا ولم أك أبدا عبدة للخيار الواحد فقد كان هناك دائما خيارات وكنت دائما حرة فى اختيارى فقد كان أبى عالماً تربوياً يدرك عن فكرٍ ودراسة كيف يربى الطفل على الرأى الحر والاختيار القويم، يعلمه أن يقول لا كما يقول نعم، كان يقول أن نعم بغير لا لا قيمة لها لا تفيد سائلاً كما لا تنفع مسؤولاً، ربانا على أن الحق يؤخذ ولا يمنح، ويضرب لنا الأمثال بأفعاله، كنا دائما شركاءه فى كل رأى وكم نزل على رأينا وأخذ به حتى فى كتاباته وأعماله ومواقفه وهو من هو رحمه الله، فعلى قدره وعلمه لم يستهن ابداً برأى أو فكرة كان يستمتع بكلامنا ويمتعنا باستماعه لنا كما يمتعنا بسماعنا له، خلق فينا الرأى الحر والاعتداد بالنفس وفى نفس الوقت الإستماع للرأى الآخر مع عدم التعنت بالرأى.
كان يحترم جهلنا بالشىء كما يحترم علمنا به فيكرر حين يسألنا عن شىء ونرد بأنَّا لا نعرف "قد أفتى من قال لا أعرف" وهكذا علمنا ألا نقفُ ما ليس لنا به علم ولا نتأخر عن السؤال أو المشورة وطلب العلم من اهله واعلامه وتحرى المصدر. من حسن حظى ايضاً انى مكثت فى لبنان من عمرى سنين تعلمت فى مدارسها على النظام الفرنسى حيث لا منهج محدد يحفظ ندخل امتحان اللغة ؛ أى لغة كانت عربية فرنسية أو إنجليزية ؛ فيكون الامتحان عبارة عن قطعة أدبية يكتبها الطالب فى زمن مقداره ثلاث ساعات يأخذ عليها دراجاته المائة مقسمة على الإملاء والنحو والبلاغة والأسلوب الأدبى والفكرة والمعلومة وهكذا يقيم الطالب فى المادة ككل دون حفظ أو تلقين تقيم معلوماته وإبداعاته وملكاته الخاصة.
سألت ابنى ذات يوم وكان طفلا دون البلوغ "أى بنى أى أصحابك إليك أقرب؟ قال فلانٌ، فسألته وماذا عن علان أراه لطيفاً وديعاً فقال: هو مطيع طوال الوقت أما الأول فدائما له رأى ! فقلت له وما الذى يغضبك فى طاعة الأخير؟ قال لا أريد تابعاً ! وإنما صديقا أحدثه ويحدثنى، أسأله يجيبنى، هكذا قالها بالحرف الواحد الطفل الذى حرصت على تنشئته تماما كما نشأت صاحب رأى يصاحب أصحاب رأى وإلا ما حاجته إلى الأصدقاء، هذا ما يجب أن نربى عليه أبناءنا أن نصاحبهم أصحاب رأى فيكونوا أصحاب رأى ويحترمون أصحاب الرأى لا يخشونهم، لا ينفرون ممن يقارعهم الحجة أقنعهم أو اقتنع بهم يقولون نعم ويقولون لا ويسألون عما لا يعلمون، ولا يرتاحون ويركنون للطاعة التى لا تفيد، هذا هو الإنسان الذى علينا بناءه ! الإنسان القوى الواثق الذى لا يبحث عن العبيد والتابعين ولا يخاف الأصدقاء الأحرار ويهتدى بهم كما يهتدون به، يستعين يعان ويعين، يبحث عن الصواب بحثاً ويقبل أن يتحيز له لا أن ينحاز لما يحذوا له الجمع فتضل بوصلته مع بوصلة القطيع إذا ضلوا أو يُضِل هو القطيع اذا ضل، فنحن لا نريد قطعاناً ولا عبيداً نريد أحراراً يعاملون أحراراً.
* أستاذ بطب قصر العينى