في منزله بمدينة نصر كان لي حظ زيارة الدكتور محمد محمود الإمام أكثر من مرة،في تسعينيات القرن الماضي ، كنت أذهب إليه لأغراض صحفية فالرجل عالم بارز في مجال الاقتصاد ، وكان وزيرا للتخطيط في حكومة ممدوح سالم عام 1967 ، وهو من رواد علم " التخطيط " في مصر والمنطقة العربية ، وعمل مستشارا للتخطيط والتنمية في العديد من المؤسسات الدولية والإقليمية .
عاش ناصريا في الفكر والانتماء ،مؤمنا بأن ثورة 23 يوليو 1952 هي أعظم حدث سياسي في تاريخ مصر خلال القرن العشرين،وعلي هذه الأرضية كان يغرد في تحليلاته السياسية والاقتصادية التي ترد علي كل المشككين في مرحلة البناء التي شهدتها مصر وقادها عبد الناصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، ولم تقتصر علي مصر وإنما امتدت بآثارها العظيمة إلي المنطقة العربية والعالم الثالث بأسره .
في خزينة أسراره كان لديه الكثير ، فهو من مواليد عام 1923 وبالتالي عاش حقبا رأي فيها الاحتلال الإنجليزي لمصر ، ورأي فيها الحكم الملكي من فؤاد الأول(1917-1936 ) إلي ابنه الملك فاروق(1936 -1952 )، وثورة 23 يوليو 1952 ، وحكم محمد نجيب ثم جمال عبد الناصر فأنور السادات ثم حسني مبارك والمجلس العسكري ومحمد مرسي وأخيرا عبد الفتاح السيسي .
استمعت منه حكايات عن نضاله الوطني ضد الاحتلال الإنجليزي ،من خلال دراسته في الجامعة ،ثم دراسته في الخارج للحصول علي درجة الدكتوراة ،ثم بدأ اندماجه مع مسيرة ثورة 23 يوليو مشيرا في ذلك بدء اتجاه مصر إلي التخطيط كعلم مع الثورة وكان هو من ضمن الرواد له،وأصبح له تلاميذه في مصر وكل أرجاء الوطن العربي.
صفحة الدكتور محمود الإمام مع الرئيس أنور السادات تحتوي علي الكثير من المواقف الوطنية له،فرغم حملات الهجوم الضارية ضد جمال عبد الناصر والتي كان أصابع السادات تقف وراءها إلا أن " الإمام " قبل أن يكون وزيرا للتخطيط في حكومة اللواء ممدوح سالم عام 1976 ، وجاءت في عز المعارضة الشرسة من قوي اليسار للسادات وكان حزب التجمع هو الذي يقود هذه المعركة ، وفيه من المفكرين والاقتصاديين البارزين شخصيات مثل الدكتور إسماعيل صبري عبد الله والدكتور فؤاد مرسي والدكتور إبراهيم سعد الدين ، وكل هؤلاء كان تشخيصهم لنظام السادات هو نفس تشخيص الدكتور الإمام ، ولما سألته عن سبب قبوله الوزارة ، رغم أن الدكتور إسماعيل صبري عبد الله والدكتور فؤاد مرسي استقالا من قبل ، فقال لي،أنه قبل المنصب برجاء من ممدوح سالم وثقة فيه ، مؤكدا أن هذا الرجل كان وطنيا كبيرا،ورغم أنه كان يعمل في ظل نظام السادات إلا أنه كان ينحاز إلي ثورة 23 يوليو وجمال عبد الناصر.
لم يستمر"الإمام"في منصبه كوزير للتخطيط طويلا،حيث ترك الوزارة ليخرج إلي مجال الفكر ووضع الخطط التنموية لبلدان عربية كالعراق،وفي دراساته كان منبها ومحذرا من التبعية للغرب وتعاطي جرعاته الاقتصادية بكل ما فيها من عيوب لا تتناسب مع واقعنا ، ومن هنا كان ينبه إلي ضرورة الأخذ بالتنمية التي تعتمد علي الذات علي أن تكون في خطها السياسي منحازة إلي أغلبية المصريين ، وبالطبع فإن هذه الأغلبية من الفقراء.
انضم " الإمام " إلي صفوف الحزب الناصري فور تأسيسه عام 1992 ، لكنه تركه فيما بعد مع تراجع الحزب وضعفه ، وتفرغ لدراساته وأبحاثه ومقالاته التي حرص عليها حتي آخر يوم في حياته ، معتبرا أنها رسالة تنوير يقدمها لكل من يريد ، فليرحمه الله