انتهيت فى المقال السابق عند ضم دارفور لنفوذ الحكم المصرى فى السودان، ومقتل الملك إبراهيم آخر ملوك دارفور فى معركة منواشى عام 1874.
بعدها سيطر جيش "الزبير" على دارفور، وطلب حسيب الله عم الملك إبراهيم من "الزبير" أن يساعده ليتولى حكم دارفور تحت طاعة الحكومة الخديوية فى القاهرة، وعجب هذا الرأى الزبير، وفاتح فيه إسماعيل باشا، فرفضه رفضا قاطعا، وذلك حسب الرواية التى ذكرها نعوم شقير فى كتابه تاريخ السودان، وسيتضح فيما بعد أن رأى الزبير فى تولية أبناء دارفور الحكم كان صحيحا.
بعد دخول إسماعيل باشا "الفاشر" عاصمة دارفور، عمد إلى تحصينها، وتنظيم أمورها تحت الحكم الجديد، ووضع نظام الضرائب ثم عين عليها حسن باشا حلمى المشهور بالجويسر حاكما، وبعد إتمام مهمته عاد إسماعيل باشا للقاهرة عام 1877، وأرسل الخديوى جوردون باشا خلفا له، ووضع شرطا لقبوله المنصب، توحيد مديريات السودان بعد أن كانت كل مديرية مستقلة عن الأخرى، وتمت إجابة طلبه، وأصدر الخديوى فرمان تعيينه على جميع بلاد السودان، ودارفور، وخط الاستواء، والبحر الأحمر، وهرر.
استمر جوردون فى منصبه سنتين أخمد خلالهم ثورة الأمير هارون الرشيد ، التى قامت نتيجة استياء أهالى دارفور من سياسات إسماعيل باشا فى بلادهم، وفرض ضرائب فادحة، وتحصيلها بالعنف، ولما استكثروا ما يحدث لهم لجأوا إلى من بقى فى دارفور من أولاد سلاطينهم الأمير هارون الرشيد حفيد السلطان محمد الفضل، وبايعوه سلطانا عليهم أوائل 1877.
وبعد ثورة "الرشيد" اقتنع إسماعيل باشا بعد عودته الثانية للسودان برأى "الزبير" بألا يصلح لحكم دارفور غير أبنائها، وأرسل إلى القاهرة يطلب أحد أبناء الملك إبراهيم المتحفظ عليهم هناك، ليوليه حكم دارفور، لتستقر شئون الإقليم، وحتى يصل الأمير الجديد عزل حسن باشا حلمى من منصبه وعين "مسادليه" بدلا منه، ولكن الامير توفى قبل وصوله دارفور، وقُضى على ثورة هارون الرشيد، وبقى الحال كما عليه تحت إدارة مسادليه.
مع اضطراب الأوضاع فى غرب السودان كانت الأحداث تتصاعد فى كافة أرجاء السودان مع ظهور دعوة محمد أحمد أو المهدى كما أطلق على نفسه، فصدق الناس دعواه، وخاطب العلماء، ومشايخ الطرق والقبائل لمبايعته على الجهاد فى سبيل الله، وأورد "شقير"، فى كتابه نص رسالة من المهدى إليهم قال فيها: إنه قد رأى النبى بعينى رأسه بيقظة، فأجلسه على كرسيه، وقلده سيفه، وغسل قلبه بيده، وملأه إيمانا، وحكما، ومعارف منيعة، وأخبره بإنه الخليفة الأكبر، والمهدى المنتظر، وأن من شك فى مهديته فقد كفر، ومن حاربه خذل فى الدارين، وما زال النبى يظهر له مع الخضر، والملاك جبرائيل فيوحى إليه إلى يوم وفاته .
وانتشرت الدعوة فى أرجاء السودان كالنار فى الهشيم، ودانت له السودان حتى وصل الخرطوم، وفشلت كل الحملات التى أرسلها الجيش المصرى لمواجهة أنصار المهدى.
وأرجع "شقير" نجاح الثورة المهدية إلى عدة أسباب أولها استخفاف الحكومة بشأن محمد أحمد –المهدى- فى البداية.
ثانيا- ثورة عرابى فى القاهرة التى تزامنت مع دعوة المهدى، وأجلت إرسال أى قوات دعم إلى السودان حتى انتهاء ثورة عرابى وما إن انتهت إلا وقد كانت ثورة المهدى انتشرت فى أرجاء السودان.
ثالثا- ضعف الحاميات العسكرية المتواجدة فى السودان فانكسرت جميعها أمام أنصار المهدى.
وأمام الفشل المتصاعد من ممثلى الحكومة فى السودان فى صد الثورة المهدية قرر الخديوى إرسال "جوردون باشا" مرة أخرى إلى السودان ،وكانت مهمته الإخلاء، وجاء المطلوب منه نصا كما ذكره "مكى شبيكة فى كتابه السودان عبر القرون" كالتالى: إن الغرض من إرسالكم إلى السودان إرجاع الجنود، والموظفيين الملكيين، والتجار إلى مصر، وذلك مع حفظ النظام فى البلاد بإعادتها إلى سلالة الملوك الذين حكموها قبل الفتح المصرى، ولنا مزيد الثقة أنكم تتخذون أفضل الطرق لإتمام هذه المهمة لسلام .
ويتضح هنا إدراك مصر فشل سياستها فى حكم السودان، والتى أدت إلى تجاوب السودانيين مع دعوة "المهدى".
ولما وصل "جوردون" الخرطوم أرسل إلى "المهدى" خطابا يوليه فيه على كردوفان، فرد المهدى بالرفض، ودعاه إلى الإسلام، ولأن "جوردون" كان يعتز بمسيحيته فرأى أن رد "المهدى" إهانة شخصية له، فعزم على قتال "المهدى" ونسى تماما سياسة الإخلاء التى جاء لتنفيذها.
وحاصر جيش المهدى الخرطوم ، وراسل "جوردون" يقنعه بالتسليم لكنه رفض آملا فى أن تنقذه الإمدادات المصرية لكنها أخذلته، ودخلت قوات المهدى الخرطوم، وقتلت "جوردون".
وأعلنت الحكومة البريطانية رسميا الجلاء عن السودان فى 11 مايو 1885، وتوفى المهدى فى يونيو 1885، وتولى الحكم بعد المهدى الخليفة عبد الله.
أما حال دارفور مع المهدية، كما جاء فى كتاب "السودان عبر القرون" لمكى شبيكة، فأول من رفع راية المهدية فى دارفور هو "مادبو" زعيم الرزيقات، ثم تولى الأمير يوسف ابن الملك إبراهيم أمر دارفور، وسمع الخليفة عبدالله أنه أباح الخمر فى الفاشر فطلب منه الحضور لأم درمان لتجديد البيعه له، ولكن يوسف خشى أن يتم عزله، وسجنه فرفض الذهاب فأمر الخليفة حاكم كردوفان بمحاربته، فدخل الفاشر، وقتل الأمير يوسف، وبعد مقتله بايع "الفور" أبا الخيرات، وتجمع معه الثوار بجانب من تجمع مع أبو جميزة، ولكن انهزموا على يد جيش المهدية 1889.
ومع استتباب الأمور للمهدية أخذوا يفكرون فى فتح مصر، وضمها إلى دولتهم فى السودان، ودارت معركة توشكى بين المهدية، والجيش المصرى عام 1889، وهُزم المهدية، وكانت تلك الهزيمة بداية نهايتهم لأن الجيش المصرى بدأ بعدها اتباع خطة الهجوم لا الدفاع إلى أن تحركت حملة "كتشنر" عام 1896 لاسترجاع السودان للحكم المصرى.
ونجح "كتشنر" بعد معارك طويلة مع أنصار المهدى فى هزيمتهم، وقُتل الخليفة عبد الله فى نوفمبر 1899. ولكن هذه المرة لم تكن العودة للحكم المصرى منفردا، ولكن لحكم ثنائى مصرى إنجليزى باتفاقية مشتركة بين الجانبين، ونصت الاتفاقية على منع تجارة الرقيق منعا مطلقا سواء إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه، وعُين "كتشنر" أول حاكم عام للسودان.
عودة إلى دارفور، وبعد هزيمة الثورة المهدية، كان "كتشنر" يرى ألا يكرر خطأ الحكومة المصرية عندما ضمت دارفور فى المرة الأولى، وقرر أن يتولى أمورها شخص ينتمى إلى العائلة المالكة بها، وأوفد إبراهيم على أحد أبناء سلاطين دارفور، ولكن على دينار كان أسبق منه.
أُجبر "دينار" على الإقامة فى أم درمان عاصمة المهدية لعدم إظهاره الإخلاص لهم حينما ولوه سلطانا اسميا على دارفور، فغادرها مع بعض أصحابه، عائدين إلى دافرفور بعد اضطرابات حروب المهدية مع "كتشنر"، وانضم إليه سكان دارفور لما وصل الفاشر، وسلمت له السلطات التى كانت تباشر الحكم نيابة عن المهدية فكان أعلى نفوذا، وأدرك إبراهيم تفوق على دينار فترك الأمر له .
تولى على دينار حكم دارفور، وجلس على عرش أجداده بشروطه حيث كان يريد اعتراف الحكومة بسلطانه، وألا تتدخل فى شئونه مقابل أن يرفع العلمين المصرى، والإنجليزى، ويؤدى الضرائب، وبالرغم من نية "كتشنر" تولية شئون دارفور لأحد أبناء سلاطينها السابقين، إلا إنه كان يريد أن يظل له سيطرة، ورقابة على أمورها، وتعيين مستشارين لدينار يقيمون معه فى الفاشر، ولكن حكومة السودان رضخت لشكل العلاقة بينهما كما ارتضاها على دينار.
مشاكل على دينار فى دارفور لم تختلف عن مشاكل أجداده، وتمثلت فى اخضاع القبائل المتمردة، كالبقارة، والرزيقات، وبنى هلبة، وقد عرف عنهم كثرة خروجهم على سلطان دارفور على مر عصور السلطنة.
وزادت عليه توغل الفرنسيين فى أرض سلطنته من الغرب، وأخبر حكومة الخرطوم، ونصحته أن يترك الأمر للحكومة الإنجليزية، ولكن الحرب العاليمة 1914 أجلت المفاوضات.
اعتمد "دينار" على الشريعة الإسلامية فى الحكم، وعرف عنه التدين، وبدأ يرسل محملا سنويا لمكة.
ساءت علاقة السلطان على دينار بحكومة الخرطوم على مدار السنين لعدة أسباب منها عدم إجابة طلبه للسلاح، وتعدى الفرنسيين على حدود سلطنته غربا، و تآمر موسى مادبو زعيم الرزيقات على حكومة دارفور بالتعاون مع حكومة السودان.
ومع قيام الحرب العالمية الأولى انتشرت إشاعات عن قرب انهيار الإنجليز، وصدقها "دينار" ورأى الفرصة سانحة للتوجه شرقا، وإقامة دولة إسلامية فى ربوع السودان، فخاطب السلطان العثمانى كاعتباره خليفة للمسلمين وتجاوب الباب العالى معه، معظما فيه غيرته على الإسلام.
عندما علمت الحكومة السودانية بما يجهز له "دينار" أعدت حملة إلى دارفور، وجمعت 3000 جندى أغلبهم من الجيش المصرى.
التقى الجيش مع فرسان الفور فى موقعة برنجية 22 مايو 1916، ولم يجد على دينار ملجأ إلا جبل مرة، وتتبعه قوة من الجيش، وقُتل فى 6 نوفمبر 1916 وتم ضم دارفور نهائيا للسودان.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد زكريا
أحسنتى أستاذه
منتظر باقى المقال من المعجبين بحضرتك