كنت قد سافرت فى إجازة منتصف العام إلى الأقصر وأسوان لزيارة الآثار القديمة والاستراحة من عناء العمل والتدريس بالجامعة، وما أجمل صعيد بلادنا، وفى أحد المعابد الفرعونية الجميلة لاحظ سائح ألمانى مسن أن العجب يأخذ منى مأخذاً كبيراً عند رؤيتى للآثار المصرية القديمة والتاريخ المنحوت على جدرانها العتيقة، فسألنى إذا كانت هذه هى المرة الأولى لزيارتى إياها؟ فقلت وبعزة وكبرياء المصرى المحب لبلدة وآثارها العظيمة: لا وبلا فخر بل الخامسة أو السادسة، فتبسم ضاحكا وقال زرتها من قبل ثمانية وعشرين مرة وهذه التاسعة والعشرون، وعلىَ أن أجىء كل عام فى المستقبل أيضاً حتى مماتى. فقلت له فهمت أنك كنت فى المرة الأولى مستطلعاً مستفيداً، فأتممت فى المرة الثانية، ثم أعوزك الوقت لإتمام قصدك فجئت الثالثة. فما رأيت أعجب من تسويفى زيارة الآثار إلى هذا اليوم إلا إكثارك من رؤية الشىء الواحد، واستزادك من ذلك على غير جدوى. فقال، بل باللذة التى كنت أشعر بها كأنها أول مرة. وما رجعت مرة إلا بفوائد جديدة لم أكن لأحصل عليها من قبل، كلهفة العاشق الملوع للقاء معشوقته.
كان لهذا الحديث الطريف أثر ثابت عندى فى فهم هذا الاهتمام الذى يعرفه الغرباء من دول أوروبا كالألمان والفرنسيين وكثير من دول أمريكا الشمالية والجنوبية وباقى دول العالم من الجانب الشرقى للمعمورة فى زيارة آثار مصر للوقوف على أخبار العالم الأول، حتى ليضيفوا لك صفحة أو صفحات إلى أسفار التاريخ القديم، ولينتفعوا بمعرفة قوانين النشوء والارتقاء التى صارت عليها العلوم والفنون والصنائع من نحو سبعين قرناً. وليبحثوا فى جوانب العالم عن الحلقات المفقودة من سلسلة الظواهر الاجتماعية والحركات السيكولوجية والفلكية والمجموعة الشمسية وعلوم اخرى كثيرة التى تطورت بها الأمم حتى صارت إلى ما هى عليه الآن. فقد عرف هؤلاء الاجانب من قبلنا أن الذى يجهل ماضى العالم حقيق به ألا يصح حكمه على حاضره ولا على مستقبله. ومن لا يعرف تطورات الإنسان لا يستطع أن يضع له قوانين السلوك فى الحياة الاجتماعية ولا السياسية ولا حتى الاقتصادية. فحتى المصرى المتعلم عادة ما يقف أمام الآثار القديمة لا يعرف منها إلا ما يعرفه العامي. يعرف منها أنها عظيمة متقنة دالة على عظمة الملك الذى يخبر عنه من المرشد السياحى الواصف لها ,لا أكثر.
لا أطلب أن يكون كل فرد منا «شامبليون» فى دقة ملاحظته وقوة استكشافه أو «ماسبيرو» فى إحاطته بعلوم الآثار المصرية، أو يحاكى د. زاهى حواس فى معلوماته الأثرية الفياضة. ولكن المطلوب هو محاضرة مستمرة ودروس دائمة فى المدارس والجامعات وغيرها من دور العلم وقصور الثقافة، يسهل السبيل على أبناء مصر أن يعرفوا ماضيهم لاعلى الوجه العلمى المتخصص، ولكن على الوجه الذى يعرفه السائح الأجنبى من آثار تاريخ أجدادنا أكثر منا نحن أهل البلد. فليس أمتنا فى حاضرها ذات وجود مستقل عن أمتنا فى ماضيها، ولكن الأمة كيان واحد غير منقسم وغير قابل للتجزئة. إنها أمة خلق جسمها الاجتماعى متماسكا من يوم أن استقلت بهذا الوطن المحدود جغرافيا، وكانت ذات نظام اجتماعى معروف الهوية فصارت تنتقل فى حياتها من الصحة إلى المرض، ومن المرض إلى الصحة، حتى صارت إلى ما هى عليه اليوم بعد 7 آلاف عام حتى العام الحالى 2016. فبعيد على المصريين الذين يريدون الارتقاء ببلادهم (فى هذا الزمان وبعد الثورات الحديثة) أن ينجحوا فى تحقيق ارادتهم هذه إلا إذا عرفوا حقيقة أمتهم وماضيهم المشرف.
وإن حقيقتها هى مجموع ماضينا وحاضرنا ونظرة إلى مستقبلنا. فليست فى معرفة الآثار الفرعونية والعربية والإسلامية والقبطية واليونانية...الخ، ولو قليلاً، مقصوراً نفعها على اغتباط النفس برؤيتها وتحصيل شعور العزة بذكرى ماضى مصر المجيد وقول «هذا ما فعله أجدادنا العظام ». بل هناك نفع أعم وهو الوصول من معرفة الماضى إلى معالجة الحال حتى يتبدل به مستقبل سعيد. عسى أن يقع ما نقول من مشاعر الشباب موقع القبول فيقبلوا على وسائل العلم بمصر القديمة خاصة أن الوصول للعلم فى هذا العالم الالكترونى الحديث أصبح أسهل وأيسر سبلاً. يا اهل مصر تعلموا وعلموا تاريخ بلدكم، وكونوا يا شباب مصر خير الناس، فخير الناس أنفعهم للناس وعلى وزارات التربية والتعليم والآثار والثقافة والسياحة والشباب أن تفرد مساحة أوسع للدرس النظرى والعملى فى مجال علوم الآثار القديمة وتاريخها وعلوم المصريات، حتى يعى المصريون (الشيوخ والشبيبة) عن حق ماضيهم فيفهموا حاضرهم ويخططوا لمستقبلهم تخطيطا صائبا. حتى نصبح أمة متنورة بنور العلوم فرقى الأمم بعلومها وأخلاقها الحميدة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة