" لابس تيشرت أحمر رايح على بورسعيد.. راجع بكفنى أبيض وفى بلدى بقيت شهيد، فى الجنة ياشهيد".
فى الذكرى الرابعة لأحداث مجزرة بورسعيد يرن فى أذنى هذا الهتاف الذى سمعته يهز أركان الأرض فى إحدى مظاهرات شباب الألتراس مطالبين بالقصاص لأرواح 74 شابا وطفلا من رفاقهم عقب وقوع هذه المأساة منذ 4 سنوات.
مع مرور هذه الذكرى قطع الرئيس السيسى بمداخلته مع الإعلامى عمرو أديب كل محاولات شيطنة شباب الألتراس التى استمرت طوال السنوات الماضية، وأدرك كأب أن هؤلاء الشباب يسعون وراء هدف مشروع وهو القصاص العادل لرفاقهم ضحايا المجزرة حتى وإن أساء بعضهم التعبير، أكد أنهم أبناؤنا الذين يجب احتواؤهم وأنه ليس هناك جريمة يمكن التستر عليها، ودعا هؤلاء الشباب لاختيار عدد من بينهم لتكوين لجنة للوصول إلى حقيقة ما حدث والإطلاع على ما تم التوصل، إليه مؤكدا أنه ليس هناك أسرار وأنه مع الحوادث كثيرة العدد قد تختفى بعض الحقائق.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يظهر فيها موقف السيسى من شباب الألتراس، حيث أشاد بهم فى مباراة الأهلى التى حصل فيها على البطولة الكونفدرالية، مشيرا أنهم قدموا صورة مشرفة لمصر، هذه المواقف التى تمثل بداية لاستيعاب هؤلاء الشباب وتقطع الفرصة على من يرغبون فى شيطنتهم والانتقام منهم أو من يريدون استغلالهم، وتوضح أنه ليس هناك أسرار يسعى النظام لإخفائها أو جرائم يهدف للتستر عليها، وهى الرسالة التى جاءت فى وقتها.
فهؤلاء الشباب هم أبناؤنا وإخواننا، قابلت عددا من أسر هؤلاء الشهداء الذين تتراوح أعمار أغلبهم بين 14 – 19 عاما، ودخلت بيوتهم وسمعت شهادات رفاقهم الذين حمل كل منهم عشرات القصص والمشاهد التى تجسد فصول المجزرة، وشاهدوا أعز أصدقائهم ينحرون أمامهم وهم عاجزون عن إنقاذهم، شاهد كل منهم الموت بعينيه ونظرات الرعب فى عين رفيق عمره قبل أن تصعد روحه إلى بارئها، منهم أطفال لا تتعدى أعمارهم 15 عامًا واجهوا القتل بأبشع الطرق دون أن يتمكن صديقه من إنقاذه، ذهب كل منهم وهو يغنى مرتديا فانلة ناديه الحمراء ويحمل معه طبلة وصفارة وعاد جثة فى كيس بلاستيك أو مصابا يحمل جثة أعز الأصدقاء .
لمحت بركان الغضب فى عيون هؤلاء الشباب ونظرات الحسرة والقهر فى عيون أمهاتهم وأسرهم على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، فمنهم من يسكن المناطق الشعبية فى العمرانية وإمبابة وبولاق ومنهم أبناء الأحياء الراقية فى القاهرة الجديدة وأكتوبر وحدائق الأهرام، طلاب بالجامعة الأمريكية أو كليات الهندسة أو المعاهد أو الاعدادية ومنهم من ترك التعليم ليساعد أهله على نفقات المعيشة، اجتمعوا على حب النادى الأهلى وحب بعضهم البعض .
وإذا كنت تحمل فى ذهنك صورة عن الألتراس كتلك التى يحاول البعض تصويرها على أنهم جميعا مجرد شباب خاوين يميلون للعنف ويهوون الشغب والبلطجة، فبالتأكيد ستتغير هذه الأفكار إذا دخلت أى من بيوت شهداء مجزرة بورسعيد واقتربت من حياتهم وصفاتهم وأخلاقهم، ورأيت وفاء رفاقهم لأسرهم وكيف يتعاملون معا، وأدركت أن مصر ستخسر كثيرا إذا لم تستغل هؤلاء الشباب وتستثمر طاقاتهم التى تتسع لأكثر من حب ناد رياضى فقط.
فى الذكرى الرابعة لمجزرة بورسعيد وبعد الأحكام التى صدرت على الجناة فى هذه القضية شهر يونيو من العام الماضى والتى شملت أحكاما بالإعدام على 11 متهما وبالسجن المشدد على عدد آخر، لازالت جراح آلاف الشباب تنزف ولا زالت حسرة أمهات الشهداء قائمة.
لازال خالد أحمد عيسى الصديق المقرب للطفل أنس محيى الدين أصغر ضحايا مجزرة بورسعيد وصاحب الابتسامة الشهيرة، لا ينسى صديقه الذى مات مشنوقا فى استاد بورسعيد، ولاتزال والدة الطفل محمد جمال الطوخى الذى لم يتعد عمره 15 عاما وشقيقته تعيشان مأساة فقد الابن الوحيد وتستيقظ كل منهما على كوابيس تتخيل فيها لحظة وفاته وصوته المرعوب حين اتصلت به وقت وقوع المجزرة وهو يبكى، فلا تملك إلا أن تصرخ قائلة: "استخبى تحت الكرسى يامحمد ".
لازالت أم محمود الذى لم يكمل عامه الـ14 وقت وقوع المجزرة تنظر إلى ما تبقى من آثار الرسومات التى رسمها والكلمات التى كتبها فى حب النادى الأهلى على حوائط منزلها البسيط الذى لم تدهن حوائطه، ومحمود طفل فقير ترك المدرسة من الصف الأول الإعدادى كى يساعد أمه بائعة الخضار على تجهيز شقيقاته بعد مرض والده، تتذكر فرحته وهو يرافق أصدقاءه للسفر إلى بورسعيد لتشجيع النادى الأهلى وكيف كان هذا التشجيع وتلك الأغانى الحماسية متعته الوحيدة فى الحياة، وكيف استقبلت جثته فى المشرحة.
عشرات القصص والمآسى، ومئات الأسر المكلومة، وآلاف الشباب لازالوا ينزفون قهرا وألما وهم يتذكرون أحداث المجزرة وشهداءها، قطع هؤلاء الشباب الأوفياء عهدا لازالوا يحفظونه بالوفاء لأسر رفاقهم .
أتذكر كيف كان معظم هؤلاء الشباب على درجة كبيرة من الوعى أثناء مظاهراتهم عقب هذه الأحداث وحرصهم على سلمية المسيرة وتنظيمها وعلى ألا يستغلهم أى فصيل سياسى وهو ما تأكد من رفضهم انضمام حركة 6 إبريل بما ترفعه من هتافات وشعارات للمظاهرات التى نظموها ليطالبوا بالقصاص لرفاقهم.
ولعل دعوة الرئيس تكون بداية للتصالح مع هؤلاء الشباب واستغلال طاقاتهم وقدراتهم التى فاقت قدرة العديد من المؤسسات فى التنظيم والولاء لفكرة والالتفاف حولها، وبداية لمداواة جراحهم، والاستفادة من نقاءهم وحماسهم، وحمايتهم إذا كان هناك من يريد استغلالهم ممن يريد بمصر سوءا، إنهم أبناؤنا الذين فاق ما رأوه كل خبراتنا وقدرتنا على التحمل، علينا ألا نكيل لهم الاتهامات وألا نحولهم إلى مجرمين، شباب يمكن جمعهم على حب الوطن وليس مجرد حب ناد رياضى فقط.
هؤلاء الشباب لم يجدوا من يحتويهم ويضمهم حتى الآن فى تنظيم شرعى يكون ولاؤه الوحيد لمصر، ولن نبنى الوطن إلا بهم، فهل آن الأوان أن نداوى جراحهم وأن نجد كيانا يضمهم ويستفيد بهم؟