د. محمد نعمان جلال

ذكريات مع بطرس غالى

الأحد، 21 فبراير 2016 11:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يقول الشاعر العربى :
قد مات ناس وما ماتت مكارمهم وعاش ناس وهم بين الناس أموات
هذا أكثر انطباقا على الأستاذ الدكتور بطرس بطرس غالى الذى انتقل إلى ملكوت السماء العليا فى فبراير 2016 بعد حياة حافلة بالعمل والإنجاز فى ميادين الفكر والسياسة والدبلوماسية والأكاديمية وتتلمذت على يديه أجيال كثيرة وقدم إنجازات باهرة وتعرض لحملات ظالمة وإشادات كثيرة. إنه ابن مصر البار الذى لم يسىء إليها لحظة واحدة والذى لم يتوان عن خدمتها طوال حياته ودافع عن عروبتها وعدم انحيازها وإفريقيتها بل وإسلاميتها وفرعونيتها فى شتى المحافل الوطنية والدولية .

الدكتور بطرس بطرس غالى شغل مناصب عديدة منها وزير دولة للشئون الخارجية ونائب رئيس الوزراء للشئون الخارجية ورئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان وأمين عام الأمم المتحدة وأمين عام الفرانكفونية وأستاذ العلوم السياسية والقانون الدولى واتسم بأنه من الذين يعملون ليلا ونهارا بدأب ونشاط أكاديمى وسياسى ودبلوماسى على العديد من الجهات حتى اللحظة الأخيرة من عمره . لقد تميز بطرس غالى بالعمل فى أصعب المواقف وأكثر الأزمات حدة فى تاريخه من أجل مصر التى أحبها وعاش على ترابها وأصر أن يموت على أرضها، ومصر بدورها لم تتوان عن مساندته فى كافة المناصب التى تولاها فى أكثر المواقع مكانة على المستويين الوطنى والدولى ومنها مبادرته للحصول على منصب أمين عام الأمم المتحدة حيث كان أول عربى وأفريقى يتولى هذا المنصب.

لقد آمن بطرس غالى بوطنه وكان شجاعا فى ذهابه للقدس مع الرئيس الراحل أنور السادات، كما كان شجاعا فى تعامله مع كافة الأطراف العربية والأمريكية وهو بحق يعد ابن أفريقيا البار فقد بذل جهدا كبيرا للإفراج عن الزعيم الأفريقى نيلسون مانديلا، وزار جميع الدول الأفريقية، ومن مبادراته منظمة "الاند وجو" لدول حوض النيل وإنشاء الصندوق المصرى للتعاون الإفريقى والذى يعد مؤسسة مهمة فى مساعدة الدول الإفريقية وتزويدها بالخبرات العلمية والفنية فى العديد من المجالات قبل أن تستيقظ دول كبرى وتنشئ منتديات وصناديق للتعاون مع أفريقيا، كان بطرس غالى أستاذا متميزا واهتم بأفريقيا كأستاذ، كما كانت له مبادرات أكاديمية وبحثية عديدة منها إنشاء مجلة السياسة الدولية ومجلة الإهرام الاقتصادى وساهم بكتاباته فى المجلة المصرية للقانون الدولى والمجلة المصرية للاقتصاد والتشريع وغيرها من المجلات العلمية والأكاديمية المصرية والدولية .

بطرس غالى الأستاذ تشرفت بأن أكون تلميذا له منذ أن التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1961، وكان له فضل المساهمة مع الرعيل الأول من الأساتذة محمد زكى شافعى وخيرى عيسى وعبد الملك عودة ووهيب مسيحة وأحمد سويلم العمرى وآخرون فى إنشاء هذه الكلية وكان الرئيس الثانى لقسم العلوم السياسية فى الكلية، كما استمرت علاقتى به وتوثقت بدرجة أكبر خلال دراستى للماجستير والدكتوراه، وكنت أستشيره فى بعض ما كنت أقابله من مشكلات بحثية رغم أنه لم يكن مشرفا على إعداد الماجستير أو الدكتوراه، وزار النرويج؛ لحضور مؤتمر عن القانون الدولى فى منتصف سبعينات القرن العشرين عندما كنت عضوا فى سفارة مصر بالنرويج عام 1975-1979 ورافقته طوال الندوة مع السيدة الفاضلة زوجته ليا هانم وأقمت على شرفهما حفل عشاء دعوت له نخبة من أساتذة القانون والعلوم السياسية والمتخصصين فى الشرق الأوسط، كما شاءت إرادة الله أن أكون ضمن الفريق الذى عمل جاهدا لإقناع الدول وبخاصة أعضاء الأمم المتحدة وعلى وجه الخصوص أعضاء مجلس الأمن فى عام 1991، إذ كنت قائما بالأعمال للوفد المصرى ثم نائبا لرئيس الوفد الدكتور نبيل العربى، وقمنا معنا باللوبى والتنسيق مع مندوبى الدول ونوابهم وبخاصة مع الوفد الفرنسى فى الأمم المتحدة والوفود العربية والأفريقية والإسلامية، وقمت بالرد على كثير من التساؤلات الصحفية عن خبرته وعلمه فى المجالات الاقتصادية الاجتماعية ودافعت آنذاك عما طرح من تساؤلات عن كونه كبيرا فى السن وكان آنذاك فى أوائل السبعينات من العمر وبارك الله فيه وامتد عمره حتى توفى وهو يناهز الرابعة والتسعين .

من مواقف بطرس غالى التى لا تنسى دفاعه عن القضية الفلسطينية وقد دفع ثمنا باهظا لمواقفه هذه عندما أصر على نشر الأمم المتحدة تقريرها عن مذبحة قانا التى قامت إسرائيل رغم اعتراض أمريكا صاحبة الفيتو على نشر التقرير وطلب دول أخرى بل وإسرائيل واللوبى اليهودى فى الولايات المتحدة عدم نشره ولكنه كأمين عام وصاحب مبدأ رفض الانصياع لإرادة الدول العظمى دفع ثمنا بعدم التجديد له فى المنصب وأصبح فريدا فى كونه الأمين العام الوحيد حتى الآن الذى حصل على فترة واحدة وساومته أمريكا ودول أخرى على تجديد نصفى للمدة الثانية فرفض بإباء وشمم إما مدة كاملة أو عدم التجديد وهو ما كان.

تشرفت بأن زار بطرس غالى الصين عندما كنت سفيرا ورافقته فى زياراته ورحلاته فى عدة مدن وأقاليم فى الصين، وأقمت حفل عشاء على شرفه فى دار السفارة بحضور عدد من الشخصيات الصينية المهمة وسفراء الدول العربية والأجنبية وأساتذة جامعات، ونشر له كتابان مترجمان للغة الصينية الأول: عن رحلة القدس مع الرئيس السادات وقد كتب مقدمة النسخة المترجمة للصينية نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية الصين تشيان تشى تشين Qian Qichen . أما الكتاب الثانى فكان عن تجربته فى الأمم المتحدة وقضاياها وتشرفت بموافقته على أن أقوم بكتابة مقدمة الطبعة الصينية من ذلك الكتاب وكنت صريحا فى كتابتى وجريئا فى تحليلى لمسيرته الأكاديمية والسياسية وعندما عرضتها عليه قبل النشر لم يغير منها كلمة واحدة فازداد إعجابى به وبحكمته واحترامه للكتابة العلمية. وظللت على تواصل معه حتى الفترة الأخيرة حيث كنت عضوا فى المجلس القومى لحقوق الإنسان لمدة ست سنوات من 2003-2009 وكان يتولى رئاسته، كما رافقته فى زياراته للبحرين لحضور بعض المؤتمرات الدولية منها مؤتمر عن الإتجار فى البشر، وكان رغم كبر سنه يصر على البقاء فى قاعة المؤتمر للاستماع لكافة مداخلات المشاركين فيه مهما كانت طبيعة تلك المداخلات ومستوى المتداخلين. تاريخ علاقتى بالدكتور غالى طويل وممتد بصفته أستاذ ووزيرا. ولا يسع المقام للحديث عن ذلك تفصيلا. ولكننى اذكر مواقف خاصة معه منها هذين الموقفين فى واقعتين إثر توليه منصب أمين عام الأمم المتحدة وهما توضحان حب بطرس غالى لمصر وأفريقيا بوجه خاص:
الأولى: إنه كان إنسانا حليما بمعنى الكلمة فلم يكن يغضب على معاونيه إلا قليلا، وكان يغضب للحق ولأفريقيا ولمصر، وأذكر أول لقاء له بعد توليه منصب أمين عام الأمم المتحدة مع المجموعة الأفريقية فوجد عدد الحضور من السفراء الأفارقة فى الاجتماع قليلا فأنتقدهم بشدة قائلا كيف يمكن أن يحترمكم الناس وأنتم لا تشاركون فى اجتماع مجموعتكم فى الأمم المتحدة وهو اجتماع يناقش قضايا أفريقية . وأستاء السفراء الحاضرون، ولكن لم يجرؤ أحد على الاعتراض على ما قاله وأدركوا أنهم مخطئون وأنه على حق .


الثانية: لا أنسى اتصاله بى فى مكتبى بمقر البعثة المصرية وكنت آنذاك قائما بالأعمال، وكانت الأمم المتحدة دعت لجلسة إجرائية قصيرة للموافقة على قبول دولة لختنشتين عضوا بالأمم المتحدة ورفع علمها أمام المنظمة الدولية وتأخر ممثل مصر فى الاجتماع ونظر بطرس غالى لمقعد مصر ولم يجد أحد يجلس فيه فغضب بشدة ثم انتهى الاجتماع فى غضون عشر دقائق، ولم يكن المندوب المصرى المكلف بالموضوع قد وصل ؛ فاتصل بى الدكتور غالى غاضبا وأنبنى قائلا كيف يكون مقعد مصر خاليا؟ إن هذا موقف غير مسئول وإنه يعرفنى كتلميذ له منضبط ولدى إحساس بالمسئولية فقلت له إن الزميل المكلف بالمسئولية تأخر فى الطريق من مقر البعثة إلى مقر الأمم المتحدة نتيجة الازدحام المرورى فى نيويورك فقال لى وهو فى حالة ثورة أنه سوف يتصل بالرئيس مبارك فى القاهرة لإبلاغه بهذا الخطأ الجسيم. ولكنه فى اليوم التالى قال لى إنه اكتفى بتأنيبى ولم يتصل بالقاهرة؛ لأنه يعرفنى جيدا ولكننى أخطأت فلم أحضر شخصيا أو أرسل شخصا أكثر تقديرا للمسئولية لكى يحضر فى الموعد المحدد للاجتماع.. فشكرته .

ما أريد قوله إنه لم يكن له الحق رسميا كأمين عام الأمم المتحدة أن يؤنب سفراء المجموعة الأفريقية، ولا يؤنبنى لأنه لم يعد وزيرا أفريقيا أو مصريا بل أصبح موظفا دوليا ولكن إحساسه بالانتماء وحبه لوطنه ولقارة أفريقيا جعله يتصرف بعواطفه ولم يجرؤ أحد أن يلومه لأن موقفه كان ساميا. كما إنه أيضا لم يتردد فى نقد السياسة البريطانية قائلا للمندوب الدائم البريطانى آنذاك وهو كان أمينا عاما للامم المتحدة أن بلاده ما يزال بعض سياسييها ينظرون للمسؤلين من الدول النامية بأنهم كما لو كانوا عبيدا فى أرض الاقطاعى مستخدما كلمة أنجليزية قديمة منذ تلك العهود. ومع الولايات المتحدة رفض الاستماع لما يسمى نصائح وهى فى حقيقتها تعليمات من الدولة العظمى الوحيدة وأصر على نشر تقرير مذبحة قانا إيمانا منه بواجبه ومقتضيات الأمانة المهنية وحقوق شعب فلسطين. لقد ساهم بطرس غالى إيجابيا فى بناء الفكر السياسى الحديث فى الأمم المتحدة باصدار مجموعة من الوثائق التى أصبحت مراجع للعمل فى المنظمة الدولية ومنها أجندة السلام وملاحقاتها واجندة التنمية كما دافع عن حقوق الإنسان فى مؤتمر فيينا عام 1993 وحق الدول فى احترام خصائصها فى نفس الوقت الذى أمن فيه بمفهوم العالمية لحقوق الإنسان فى القرن الحادى والعشرين.

فى وزارة الخارجية المصرية أعاد تقليدا قديما بنشر مجموعة من الكتب البيضاء عن حرب 1967 وعن معاهدة عدم الانتشار النووى وعن سياسة مصر فى السلام وعن سياسة مصر فى أفريقيا وغيرها وكان حظى أن أكون مسئولا عن إصدار بعض تلك الكتب أثناء تواجدى فى ديوان عام الوزارة آنذاك.

غمر الله العلى العظيم برحمته بطرس غالى فى سلوكه وفكره ومثابرته على العمل فى مختلف مراحل عمره، ولا أنسى أنه طلب منى فى إحدى المرات أن اشترى شيئا له زهيدا فى قيمته فى حدود عشرة دولارات وعندما أحضرته رفض أخذه قبل أن يدفع الثمن فورا وحاولت إثنائه عن ذلك فرفض بشدة وغضب؛ واضطررت لأخذ المبلغ على مضض حتى وافق على استلام ما طلبه وأحضرته له، وقال لى: إنك أحق بمالك مهما كان بسيطا، وإنه غير محتاج له فى هذه المرحلة من العمر ولديه ما يكفيه ولا يأخذ شيئا بدون وجه حق، تلك بعض لمحات عن بطرس غالى والأستاذ والوزير وأمين عام الأمم المتحدة وأمين عام الفرنكفونية وغيرها لقد كان شخصية متميزة وعملاقا فكريا وأستاذا عميقا فى فكره ورؤيته وانسانا متواضعا وحريصا على العلم ونشره.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة