كان الجو لطيفاً فنحن فى شهر أكتوبر، وبالتحديد يوم 19 فى الشهر من عام 2014 م عندما عبرت فى الظهيرة مع ثلاثة من رفاقى شارع النيل، قاصدين مكتبه المطل على بانوراما رائعة، حيث يشق النيل طريقه بصعوبة بين العمران، فلم تكن المرة الأولى التى ألتقيه، حيث جمعنا لقاء من قبل، بحضور بعض الزملاء بعد شهور قليلة من قيام ثورة يناير.
عندما دخلنا إلى مكتبه الأنيق دون الإخلال بالبساطة، استقبلنا بحفاوة شديدة أصابتنا بالإحراج، فنحن أمام شخصية متفردة، فهو موسوعة تحمل الكثير والكثير من الثقافة والمعاصرة والذكاء، فمن العجيب أن يتجاوز عمره الـ90، ومازال يمتلك ذهن شاب مضافاً إليه تجربة متخمة لكهل لم يفقد وجه النضارة، ولم ترحل عن نفسه حس الفكاهة، فكنت سأخسر كثيرا إن لم ألتقيه، حيث يندر فى حياتك من اللقاءات ما قد يغير مسار تفكيرك، حيث يهبك الأستاذ قنبلة عنقودية لا تتوقف عن إنشطار الأفكار، وتدفق الأسئلة بلا توقف أو هوادة.
كان الأستاذ محمد حسنين هيكل فى بداية حديثه معنا صادماً، حيث سألنا بلهجة تحمل جانبا من الاستهتار بعد استقبال ودود، «من أنتم؟ وماذا تريدون؟»، لنرد باستغراب «نحن فلان وعلان، وكنا»، ليقاطعنا ضاحكاً «أنا أعرف أسماءكم، فلا أسألكم عنها، إنما أقصد، أن جيل يناير فى حاجة للتعريف بنفسه، وأن يمتلك مرجعية فكرية، ولابد أن يكون لديه مشروع حقيقى يريد تنفيذه، من أجل مصر، وأن يسخر كل خطواته، لتنفيذ ذلك المشروع، ولا يجوز بأى حال، أن يضع هذا المشروع أحد، سوى جيل يناير بنفسه، فيجب أن يجيب الشباب عن تساؤلات، من نحن؟ وماذا نريد؟، لأن الإجابة، هى بداية وضع المشروع، والتنظير له».
ليوبخنا الأستاذ قائلاً: «إن ثورة 25 يناير، قد سعت للقضاء على الاستبداد، وعملت على إتاحة الفرصة للحرية، إلا أنها تعرضت للتشويه، وأنكم كجيل مسؤولون عن ذلك، لأنكم لم تقوموا بما يجب لتتوحدوا، كما أنكم طول الوقت كنتم تعلمون ماذا لا تريدون؟ ولكنكم لم تعلموا ماذا تريدون؟»، ثم التمس لنا العذر مستطرداً «بأن المبادئ، التى ناديتم بها خلال ثورة يناير، كانت حالمة وفضفاضة، فى شعار عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وكان من الصعب بمكان، إمكانية وجود مشروع يضم الجميع، خاصة أن الذين نزلوا فى يناير، من أصحاب أفكار وتوجهات مختلفة، كما أن الثورة كانت تفتقد للقيادة».
وجاءت نصيحة الأستاذ «بأنه خلال فترة وجيزة، يجب تبنى مشروع فكرى، وتجميع نخب الشباب، لأن النخب التى شابت، لا تستطيع استكمال المسيرة، ويجب أن تتقاعد»، مشيراً لنفسه كمثال بأنه تجاوز التسعين، ولديه من المال نتاج عمله ما يكفيه وزيادة، فلما يزاحم الشباب فى زمانهم كما يفعل البعض، فكل ما عليه هو نقل الخبرات وإعطاء النصيحة فقط؟
ليأتى فى نهاية حوارنا مع الأستاذ سؤال بادرنا به عن تفسير تسمية «جبهة شباب الجمهورية الثالثة» التى أسسناها من قبل، فأجبنا بأن الجمهورية الأولى هى التى قامت بعد ثورة 23 يوليو، وأن الجمهورية الثانية هى التى قامت بعد ثورة 25 يناير، وأما الجمهورية الثالثة هى التى نحن بصددها بعد قيام ثورة 30 يونيو، ليختلف معنا الأستاذ فى التفسير، مشيراً من وجهة نظره بأن الجمهورية الأولى هى منذ قيام ثورة 1952 م، وحتى نهاية عهد عبد الناصر، والجمهورية الثانية من بداية عهد السادات وحتى نهاية عهد مبارك، وأن عهد الإخوان لا يمكن حسابه كجمهورية، ثم إننا الآن بصدد الجمهورية الثالثة.
لتأتى لحظة الاستئذان وقد مرت ساعة كلمح البصر منذ بداية اللقاء لنلتقط صورا تذكارية مع الأستاذ، ثم أصر ونحن نلح على بقائه فى اصطحابنا من مكتبه وحتى الأسانسير، ليودعنا، ويستوقفنا الأستاذ لوهلة قبل الوصول لباب المكتب ويقص لنا بوجه لم يخلُ من الابتسامة وقائع ومناسبات بعد الصور التى كست حائط ممر الخروج من مكتبه التى جمعته بالكثير من رجالات الدولة والمثقفين والسياسيين فى كل أنحاء المعمورة. رحم الله محمد حسنين هيكل، ليبقى عبر الأجيال فى الأذهان والقلوب، الأستاذ.