عندما قضت محكمة أول درجة بالبراءة فى قضية اتهام الروائى أحمد ناجى بنشر مواد أدبية تخدش الحياء العام وتنال من قيم المجتمع، حمدنا ربنا وشكرناه على نعمة الفهم والتفهم التى لم تسمح للجهلاء والمتطرفين بلعب دور المحتسب الوصى على المجتمع والضمائر، وأشدنا بالقضاء المصرى الذى يضرب كل يوم مثلا فى حماية الحقوق الثابتة للمواطنين وفى مقدمتها حرية الرأى والتعبير.
ما هى إلا أسابيع قليلة وتحركت القضية مرة أخرى، لماذا؟ لأن النيابة استأنفت على حكم محكمة أول درجة، واتهمت الروائى أحمد ناجى اتهامات لا تصدق لكاتب نشر فصلا من رواية فى صحيفة توزع ثلاثة آلاف نسخة فى زمن الفضائيات والإنترنت والسماوات المفتوحة على البورنو من الشرق والغرب، وعليه أصدرت محكمة الاستئناف حكمها بالحبس عامين على الكاتب وتغريم طاهر الطارق، رئيس تحرير أخبار الأدب، عشرة آلاف جنيه.
هل تصدقون أننا فى زمن حبارة وأنصار بيت المقدس وجرائم أمناء الشرطة وتربص جماعة الإخوان المحظورة، وأنفاق حماس وحملات التشويه من الخارج والداخل، نتفرغ لمواجهة كاتب روائى شاب ونكيل له اتهامات مرعبة لا يستطيع القيام بها تنظيم دولى إباحى يخترق موبايلاتنا كل يوم ولا نستطيع حماية أبنائنا من فيديوهاته؟، هل تصدقون أن جميع أجهزة الدولة عجزت عن حماية الكبار والصغار من المواقع الإباحية التى لا تكتفى بخدش الحياء العام فقط بل تمزقه وتمرمغه فى الوحل آناء الليل وأطراف النهار، ثم استقوت على كاتب روائى يستخدم لغة مجازية متوارية لا يفهمها إلا الأدباء والنقاد المتخصصون؟
ما الذى عاد على المجتمع إذن؟ كاتب شاب يفقد إيمانه بجدوى الكتابة فى بلده، والعمل المراد الحجر عليه ينتشر كالنار فى أوراق الشجر الجافة، وسيول اللعنات تنهال على النظام الذى أصبح قمعيا معاديا للحريات والإبداع، ودعوات لوقفات احتجاجية ضد حبس الكتاب وأصحاب الرأى، والصحف العالمية تبرز الأجواء فى مصر باعتبارها معادية للحريات، وحملات التشويه من اللجان الإلكترونية إياها وجدت موضوعا ساخنا للعمل عليه وتأجيجه.
فى زمن سابق، قدم رئيس النيابة محمد نور درسا بليغا لكل الظلاميين ودعاة الوصاية والحجر على الكتاب والأدباء، وكان ينظر فى الاتهام الموجه لطه حسين بعد نشره كتابه الشهير «فى الشعر الجاهلى»، ومحاضر التحقيقات المحفوظة حتى الآن تكشف الفارق بين زمنين وطريقتين فى النظر وكذلك بين ثقافتين متباينتين، فقد تضمنت محاضر التحقيق مناقشات بين محمد نور وطه حسين تكشف عن ثقافة بليغة ورؤية متقدمة لما تعنيه حرية الفكر والإبداع وكذلك حرص على سلامة المجتمع ورقيه، وهو ما لن يحدث ويزدهر إلا بالفكر الحر والإبداع بعيدا عن الوصاية والحجر والاتهام والتفتيش فى الضمائر، ومن هنا جاء قراره بحفظ التحقيقات وفساد الاتهامات الموجهة لطه حسين.
أين نحن الآن من زمن رئيس النيابة المثقف الجليل محمد نور؟ أين نحن من رقيه وفهمه لطبيعة الأعمال الفكرية والأدبية؟ أين نحن من حفاظه على المجتمع، ففى الوقت الذى حفظ فيه التحقيقات ضد طه حسين، أسس لقيمة احترام الفكر والمفكرين وحمايتهم من العسف وتهجم الجهلاء والمغرضين، كما حافظ على أن يظل اختبار صلاح أو فساد الفكر والإبداع مكانه قاعات العلم والدرس والثقافة لا المحاكم والنيابات والسجون.
كم نفتقد الآن تلك الرؤية والحصافة والمواءمة التى كان يتمتع بها رئيس النيابة محمد نور، وكم نحن بحاجة لأن تنظر الدولة إلى مؤسساتها، لتعيد ترتيب أوراقها وتطهرها من بؤر التطرف والإرهاب المتوارى خلف شعارات حماية الأخلاق والمجتمع.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة