الثقافة هى فعل مستمر ودائب لا يتوقف، وأذكر أنها مرتبطة فى ألفاظ القرآن بإدراك ما يبدو صعبًا، فيحتاج إلى جهد ومكابدة، وهى مرتبطة بالقتال كما فى قوله تعالى «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ»، وقوله تعالى «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ»، وقوله تعالى « مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا»، وهنا فهى تعنى إدراك وإمساك والإحاطة بعزيز يبدو بعيدًا إدراكه، أى أننا أمام جهد وفعل وهو قائم بالضرورة على الإتقان والعلم والمهارة، ولذا ارتبطت الثقافة أيضًا بمعنى الفهم والفطنة والإحاطة.
والثقافة فى الإنجليزية مشتقة من الفعل زرع «Culture»، والزراعة عمل حضارى من الدرجة الأولى، فأنت تبذر البذرة فى الأرض الخصبة الصالحة للزراعة، وأنت تعلم طبيعتها، وتعرف أوان وموسم زرعها، وتتابعها بالرعاية والعناية حتى تكبر وتقوم على سوقها كما فى القرآن الكريم «كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ».
وفى القرآن الكريم تقريع لأصحاب ثقافة القول دون العمل فى قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ»، ولو أخذنا بمفوم السياق فى القرآن الكريم، والعلاقة بين الآيات فإن شرط القتال صفًا واحدًا هو التخلص من المقت الكبير، وهو القول دون العمل، فنفض أتربة وغبار ومقابر القول التى تدفن قدراتنا فى القول دون العمل هو شرط ضرورى للقتال، وللصف الواحد المتراص.
وقد كان العرب أصحاب بيان وتزيين للقول والشعر والخطابة والاتجاه إلى الفصاحة والخطاب الكبير، وقد كتبوا المعلقات، وكانوا يعلقونها على جدران الكعبة اعتزازًا بشعرائهم وفصحائهم، وقال شاعرهم «ونشرب إن وردنا الماء صفوا.. ويشرب غيرنا كدرا وطينا»، كما قال عمرو بن كلثوم «إذا بلغ الفطام لنا صبى.. تخر له الجبابر ساجدينا».
فخامة ومبالغة وجزالة تبث فى النفس والروح شعورًا زائفًا بالقوة وبالحضارة، بينما كان أولئك القوم بلا حضارة فى الواقع والسلوك، وكانت تلك المبالغات الفصيحة جزءًا من حالة التردى الحضارى العام لهم قبل مجىء الإسلام، لذا جاء القرآن الكريم متحديًا بلغة جديدة ميسرة، بعيدة عن الزخرف الزائف، والتفصح المتهافت، ونبه إلى قيمة العمل فلم يذكر الإيمان إلا وذكر معه العمل الصالح «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».
ونحن جمهور عربى عاطفى تتلاعب به الكلمات، وقد ورثنا عن آبائنا حب التفاصح وزخرف القول غرورًا.. تبهجنا الكلمات، وتجعلنا نذرف الدموع، ونسامح الفصحاء من القادة والزعماء حتى لو ألحقوا بنا على مستوى التحقق العملى هزائم نكرات، والآن وقد حانت لحظات الضيق بالقول دون عمل أو أثر، لم نعد ننخدع بتلك الكلمات المعسولات، يبحث العرب اليوم عن تحقق لأقوالهم التى ناءوا بحملها لتكون واقعًا بين أيديهم يلمسونه، وفى مصر أجيال جديدة أرهقها الكلام، وتريد أن ترى عملًًا وفعلًا، نحن فى مفرق طريق، إما أن نغادر ثقافة القول إلى العمل، أو أننا سنظل نرقد فى مقابرنا الوثيرة الأليفة التى تمنحنا دفئًا كاذبًا، لكنها لا تحقق لنا فى الواقع شيئًا.