حينما ألقت مباحث المصنفات الفنية القبض على رسام الكاريكاتير إسلام جاويش قالوا إن تهمته سياسية، لأنه يرسم معارضًا للرئيس عبدالفتاح السيسى، وتحول «جاويش» بين يوم وليلة إلى حديث الساعة، وتسارع الجميع لإعلان التضامن معه ضد الدولة البوليسية القمعية التى لا تقدر على مواجهة رسم كاريكاتيرى فزجت به إلى داخل السجن، وما هى إلا ساعات حتى كان «جاويش» بين أصدقائه وأهله، بعدما أخلت النيابة العامة سبيله، وكانت المفاجأة التى أخرست الجميع أن كل ما قيل عن القضية وتسييسها لم يكن إلا مجرد وهم فى عقول من أدمنوا ذلك.
نعم وهم كشفه بيان «جاويش» نفسه حينما قال قبل العرض على النيابة، وبعدما انتشر الموضوع جدًا على السوشيال ميديا: «عرفت التهم الموجهة لى حسب بيان وزارة الداخلية، اللى هى عبارة عن اتهامات بإدارة موقع بدون تراخيص، وما ورد فى بيان الداخلية، واختفى فجأة اتهام إنى برسم كاريكاتير فيه إسقاطات سياسية، اتعرضت على النيابة، واطلعت على نص التحريات، والمحامون اطلعوا على المحضر، وجت التحريات لا تديننى بأى شىء، وخرجت من سرايا النيابة مخلى سبيلى».
وقبلها كانت موقعة استقالة القاضى محمد السحيمى، الرئيس بمحكمة قنا الابتدائية، التى أثارت لغطًا كبيرًا، بعدما استخدمت فى هجوم شرس على الحكومة، ممثلة فى وزير العدل، المستشار أحمد الزند، وقيل فى استقالة «السحيمى» الكثير، خاصة فى الأسلوب اللغوى الذى كتبت به، وما هى إلا ساعات حتى انكشفت الحقيقة، بأن ما ورد فى خطاب استقالة القاضى من تعنت المستشار أحمد الزند ضده غير صحيح، وأن العقوبات التى تعرض لها «السحيمى» وتناولها فى استقالته لم تكن صادرة فى عهد المستشار الزند، إنما هى عقوبات سابقة صادرة فى عهد المستشار محفوظ صابر، وزير العدل السابق، وبعد نشر الحقيقة كان «السحيمى» ضيفًا على «الزند» فى مكتبه بوزارة العدل، معتذرًا عما بدر منه ضده.
واقعتا «جاويش» و«السحيمى» مثال على كيفية تحويل الوهم إلى بطولة، وللأسف هذه الطريقة موجودة منذ فترة، وأخذت فى الاتساع بسبب انتشار مواقع التواصل الاجتماعى، وللأسف لم يحاول محوّلو الوهم إلى بطولة أن يعتذروا عما اقترفوه من خطايا بعدما ظهرت الحقائق أمامهم، بل إننا نجدهم يسعون إلى تلوين الحقائق بالشكل الذى يفيدهم، ولا يريدون الاعتراف بالخطأ.
فى مقابل هذه الأوهام التى تتحول زيفًا إلى بطولات، هناك العديد من الأبطال الحقيقيين الذين لا يجدون من يتحدث عنهم، هناك شهداء سقطوا ضحية لإرهاب غادر، لكنهم فى عيون أصحاب البطولات الوهمية والزائفة لا يساوون شيئًا، لأن الزائفين لا يعترفون إلا بالزيف والكذب ليكون معيارًا للبطولة، أما من يدافع عن الأرض والوطن فهؤلاء ليسوا فى عداد الأبطال الحقيقيين، وستظل سيرة شهدائنا خالدة فى ذاكرة التاريخ المصرى، لكن أصحاب الوهم سرعان ما تنتهى ذكراهم بعد أيام قليلة، هم أداة للتسخين وتأليب الرأى العام، وبعد ذلك يضحون نسيًا منسيًا بعد أن تنتهى مهمتهم، وتاريخنا الحديث ملىء بالكثير من الأسماء التى استخدمت، وبعد ذلك تحولت إلى كروت محروقة، لكن الغريب أن بيننا من لم يتعظ، ومازال يسير فى طريق الوهم، لأنه مازال يبحث عن الشهرة.
لم يكن غريبًا أن تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعى بهذا القدر من البطولات الزائفة لشخصيات لم نكن نسمع عنها من قبل، فلكى تكون بطلاً الأمر لا يحتاج سوى «بوست» صغير على الـ«فيس بوك»، وتتبعه «لايكات» و«تشيير» سريع ممن يسمون أنفسهم بالنشطاء، وبعدها يتحول صاحب «البوست» إلى البطل الشجاع، مثلما حدث بالضبط مع الممثل أحمد مالك الذى خرج واعتذر عن فعلته هو ومراسل برنامج «أبلة فاهيتا»، لكن حينما رأى التضامن «الفيسبوكى» معه تراجع عن اعتذاره، ووضع ما أسماه بشروط للاعتذار.. نعم فعل ذلك لأنه أراد استغلال هذا التضامن حتى يظل فى نظر «الفيسبوكيين» بطلاً، رغم يقينه الداخلى بأنه بطل من ورق، أصبحنا نصنع أبطالاً من ورق، بينما الأبطال الحقيقيون منسيون.. نسى الجميع أبطال أفريقيا لكرة اليد، الذين أبهروا العالم بإنجازاتهم واختراعاتهم وأفكارهم، نسوا ذلك لأنهم أبطال حقيقيون، وليسوا من ورق.