هناك أبعاد ثقافية عديدة فى ثورة 25 يناير، لكنها لم تنل حقها من المتابعة والتحليل، حيث طغت الجوانب السياسية والاجتماعية، وحاز الصراع السياسى جلّ الاهتمام، وذلك رغم أن كثيرًا من قضايا الخلاف والصراع بين الإخوان والحكم الجديد ذات أبعاد ثقافية بامتياز.
ولا يمكن تصور إيجاد حلول أو تفاهمات بشأن عديد من قضايا الاختلاف، والصراع السياسى فى مصر بمعزل عن مواجهة جذورها الثقافية، وإيجاد صيغ جديدة لعديد من إشكاليات الثقافة فى مصر، وفى مقدمتها تجديد الخطاب الدينى، وعلاقة الدين بالدولة.
لا أقصد هنا المعنى العام للثقافة، باعتبارها تساوى الحضارة، أو كل المنتج المادى والمعنوى والرمزى لمجتمع من المجتمعات، بل أقصد بالثقافة هنا ما يتعلق بأنماط الحياة، ومدركات الهوية، ورؤية العالم، فضلًا على رؤية الآخر، وكيفية التعامل معه داخل الوطن وخارجه. وفى هذا الإطار يحتل الدين مكانة مركزية ليس فقط فى علاقته بالتراث، والعادات، والتقاليد المصرية، إنما لصلته الوطيدة فى العقود الأخيرة بالمجال العام فى مصر، وفضاء العمل السياسى، فقد اختلط الدين بالثقافة والسياسة فى مصر منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضى، خاصة بعد انتشار مظاهر المد الإسلامى فى مصر، وتأثره بالنسخة السلفية من الإسلام الوهابى، وتراجع دور الأزهر والطرق الصوفية، وما رافق ذلك من تعديل للدستور فى عصر السادات كى ينص- لأول مرة فى الدساتير المصرية-على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع.
ولم يقتصر التداخل بين الدين والثقافة والسياسة على الإسلام والمسلمين المصريين، بل شمل المسيحيين الذين كان رد فعلهم الانسحاب من السياسة والثقافة، وتفويض الكنيسة للحديث باسمهم مع السلطة الحاكمة.
والحقيقة أن الانقسام الثقافى حول دور الدين فى الدولة والمجتمع ليس جديدًا فى تاريخ مصر والدول العربية، فقد ظهرت بوادره فى مصر مع نهضة محمد على مطلع القرن التاسع عشر بين أنصار التراث والتجديد، واتخذ تجليات مختلفة وتسميات متعددة، مثل القديم والحديث، والأصالة والمعاصرة، والوافد والموروث، والأصالة والتغريب، والإسلام والحداثة، وتحت كل هذه العناوين وغيرها دار جدال ونقاش موسعان طالا الفكر والثقافة والسياسة والتعليم، واتسما بالاستقطاب الشديد بين فريقين يسعى كل منهما لنفى أو استبعاد الآخر، بينما تعثرت لأسباب أيديولوجية وسياسية محاولات ظهور تيار وسطى يطرح حلولًا للتعايش والتفاعل المثمر بين الفكر الغربى المعاصر، والتراث الإسلامى وفق مستجدات العصر وتحدياته.
وأعتقد بأهمية طرح هذه القضايا ومناقشتها، والتى تجاهلها نظام مبارك أو قمعها، ومن ثم لابد من النظر إلى الجانب الإيجابى فى إعادة طرح هذه الموضوعات، بحيث يتم التوافق حولها وفق عقد اجتماعى جديد، وهنا قد يبرز الرهان على أهمية تشجيع تيار وسطى معتدل ضمن الثقافة المصرية، يشدد على وسطية الإسلام واعتداله، ويقدم اجتهادات توفق بين الإسلام والممارسة الديمقراطية ومدنية الدولة، وترفض العلمانية المتشددة والليبرالية الجديدة.
أخيرًا يمكن القول بأن التحدى الأكبر الذى يواجه الثورة المصرية هو تحدٍ ثقافى يتعلق بتآكل رأس المال الاجتماعى للثورة، بحسب مفهوم فرانسيس فوكوياما، والذى يتجسد فى العديد من الأشكال والصيغ التى تساعد الناس على الوثوق ببعضهم، وبالتالى بناء مؤسسات اقتصادية وديمقراطية ناجحة. ويؤكد فوكوياما أهمية الأحزاب وغيرها من التنظيمات السياسية فى أى نظام ديمقراطى، لكن نجاحها يتوقف على قدرة الأفراد أصحاب المصالح المشتركة على التجمع لتحقيق أهدافهم المشتركة، وهذه القدرة تعتمد على توافر رأس المال الاجتماعى.