قدمنا فى مقال سابق بعنوان "التصنيع خير من الاستيراد" تحليل لعملية إعادة توزيع الدخل القومى والتى تؤدى إلى تحويل جزء من الدخل القومى من فئة اجتماعية معينة إلى فئة اجتماعية أخرى، وأوضحنا كيف أن هذا الأمر قد يتم بأكثر من شكل حسب الحجم الكلى لإعادة توزيع الدخل وحسب الجزء الذى تم تحويله من وإلى من على شرائح الشعب المختلفة؟.
ونوضح اليوم فى هذا المقال أنواع التحويلات والتى قد تكون فى بعض الأحيان تحويلات نقدية، وقد تكون فى شكل آخر مثل تخفيض فى الأسعار نتيجة لتقديم الإعانات إلى المنتج سواء كان قطاع عاما أو خاصا، لهذا الغرض، وقد تكون فى شكل توزيع خدمات مجانية، ووأضح أن كل هذه الأنواع من التحويلات المختلفة، تؤدى جميعاً إلى زيادة الاستهلاك القومى، إذا تم هذا التحويل من الدخول المرتفعة إلى المتوسطة والدخول المحدودة والفقراء ( حسب ما تنتهى إليه عملية إعادة التوزيع)، إلا أنها لا تؤثر فى الاستهلاك الكلى بطريقة واحدة لأنها لا تضمن للمستفيدين منها نفس القدرة على التصرف الواحد لكل أنماط ونماذج الاستهلاك لعدم تشابهها، فالتحويلات النقدية مثلاً تعطى للمستفيدين منها حرية الاختيار فيما يستهلكون، ومن الملاحظ أن اختيارات المستفيدين هنا، إنما تتوقف على تفضيلاتهم الشخصية، وعلى نموذج استهلاكهم، وعليه يمكن أن نفرق بين نوعين من أنواع التحويلات النقدية، الأول كإعانات البطالة والعجز والشيخوخة والإعانات العائلية فى مصر إنما تخصص عادة لزيادة الدخل الموجه للاستهلاك فى نطاق النموذج التقليدى له، أى أنها تخصص لزيادة الإنفاق على المواد الغذائية والضرورية الأخرى، وأما عن الفوائد فيمكن القول، بصفة عامة، أن المستفيدين منها عادة من أصحاب الدخول التى تكفى لمقابلة استهلاكهم، وهذا ما يفسر عندنا التجائهم إلى الإقراض، وعلى ذلك يكون من المحتمل أن يخصص الجزء الأكبر من هذه الفوائد للادخار أو الأنفاق على السلع الكمالية، ولا يصح الظن بأن هذه قاعدة مطلقة فى كل دول العالم، فمن الممكن على سبيل الاستثناء منهما فى حالة زيادة الفوائد، تزايد إقبال الطبقات ذات الدخول المنخفضة على شراء القيم المنقولة بعد أن انخفضت قيمتها، ومع إقبال هذه الطبقات على الإيداع فى صناديق التوفير وصناديق الاستثمارات (مثلما حدث فى إسبانيا واليونان عامى 2012 و2013 مع تدهور سوق العقارات)، وعلى هذا الأساس يعتمد أصحاب الدخول المحدودة فى استهلاكهم على مقدار ما يحصلون عليه من فوائد، وعلى ذلك يكون من الضرورى أن نفرق بين أنواع المستفيدين فى مصر من هذه الفوائد تبعا لفئاتهم الاجتماعية، حتى يمكن أن تحدد نموذجهم الاستهلاكى.
وأما النوع الثانى من الإعانات كمثل الإعانات التى تمنح للمنتجين بغرض تخفيض الأسعار، فإنها بهذا الشكل تمثل تحويلا غير مباشر، وهو ما يعرف أيضا "بالتحويل العينى"، وهذا النوع من التحويلات لا يضمن للمستفيدين منه حرية اختيار نوع السلعة المستهلكة، وعلى ذلك فإن الدولة هى التى تحدد فى هذه الحالات السلع التى يزداد عليها الاستهلاك نتيجة لهذا التحويل الإجبارى عن طريق اختيارها للسلع التى تقدم لها تلك الإعانات (أى التحويلات العينية). وعادة ما تكون السلع المعانة هى السلع الأساسية والضرورية، مثل الخبز والسكر والزيت والوقود وبعض أنواع الطاقة فى مصر، أما عن توزيع الخدمات المجانية فإنه يشكل هو الآخر نوعا من التحويلات العينية، ويؤدى توزيع بعض الخدمات بالمجان إلى زيادة الطلب على هذه الخدمات، ووأضح أن الدولة هنا أيضا هى التى تقوم بتحديد الخدمات التى ترغب فى نشر قاعدة توزيعها وزيادة استهلاك الشعب لها، مثل التعليم والصحة والثقافة العامة.
وأخيراً، بالإضافة إلى أن تخفيض الأسعار وتوزيع الخدمات المجانية، كما سبق بيانه، تؤدى هذه التحويلات بأنواعها إلى زيادة الطلب الكلى على هذه الأنواع من السلع والخدمات، فإن هذين النوعين من التحويلات، وهما يترجمان إلى زيادة الدخول الحقيقية للمستفيدين منهما، يؤديان أيضا، نتيجة لأثر الدخل ولأثر الإحلال، إلى زيادة الطلب العام على السلع الأخرى (والتى ليست محل التحويلات) مما يؤدى إلى ترك اختيار الطلب عليها من عدمه إلى المستفيدين من هذه التحويلات، وإن كان هذا الاختيار مقيداً بمقدار التحويلات، ويبقى أن نسجل هنا أنه إذا لم تكن السلع التى انخفض ثمنها أو لم تكن الخدمات التى توزع بالمجان من النوع الضرورى، فإن الزيادة فى الطلب على السلع الأخرى تكون فى نطاق محدود هى الأخرى، الأمر الذى يجب أن تراعيه الحكومة فى صياغة أدوات التحويل النقدى والعينى حتى تحقق الهدف المطلوب من أن يصل الدعم بكل أشكاله إلى مستحقيه وأن تحقق سياسة إعادة توزيع الدخل القومى فى مصر العدالة الاجتماعية المنشودة.
* أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة جامعة القاهرة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة