فجأة أصبحت الفضائيات ببرامج التوك شو والصحف بأعمدة الرأى ومواقع التواصل الاجتماعى كلها، حلقة كلام معاد ومكرر حول ما يعرف بأزمتنا السياسية، بينما التجاهل نصيب مشاكلنا الحقيقية فى الاقتصاد والصحة والتعليم والرى والزراعة والصناعة وإصلاح الجهاز الإدارى للدولة.
من زرع أجندة المناقشات الغلط فى الأدمغة حتى أصبحت خناقات النخبة فى واد والحكومة وانشغالاتها فى واد والناس فى واد ثالث، تسمع حوارات فوقية لا تدرى من أين جاء أصحابها، عن ضرورة المصالحة وعلاج الانسداد السياسى وتوحيد إرادة الشعب إلى آخره، فى الوقت الذى اكتملت مؤسسات الدولة لأول مرة بطريقة شرعية منذ خمس سنوات، بينما لا يتناول هؤلاء الجهابذة مثلا مشكلة هيئة السكك الحديدية التى لم يلحقها التطور منذ مائة عام، القضبان متهالكة وتخضع للسرقة والتحويلات يدوية والمزلقانات غير كافية ولا تعمل بكفاءة والحوادث تتكرر بنفس الطريقة.
لماذا لم تتحول مشاكل هيئة السكك الحديدية التى تخدم أكثر من خمسين مليون مواطن بشكل يومى إلى هم يومى لدى صناع الرأى العام والمهتمين بمشاكل البلد، على اعتبار أنه لا انفصام بين القضايا والمشكلات الملحة وأن قضايا التنمية والنهضة متشابكة ومؤثرة على بعضها؟ هل تصدى الخبراء والجهابذة لمحاولة إصلاح عيوب الهيئة المحملة بالخسائر وقلة الخبرة وعدم تأهيل العمالة؟ وهل يتصورون حقا أن الانطلاق من مشكلاتنا الأكثر إلحاحا هو الطريق الأمثل للنجاح والتنمية المنشودة؟
نشرنا منذ أيام فيديو هروب المعلمين من فوق السور بمدرسة فى الشرقية، وبقدر الضجة الكبيرة التى أثارها الفيديو والتحرك من إدارة التعليم المعنية بإحالة الهاربين للتحقيق، وتندر الكائنات الفضائية، إلا أن أحدا لم يدع إلى مراجعة عمليات الإصلاح فى كوادر المعلمين وإعادة النظر فى السياسات التعليمية برمتها، وهل نحن بحاجة إلى نموذج المعلمين الهاربين من فوق السور؟ وأين ذهبت قضية إصلاح المناهج؟ لماذا لم تتحول القضية إلى فرصة حقيقية للمراجعة وتحديد ما ينقصنا لتطوير العملية التعليمية، بدءا من البرلمان وحتى مواقع التواصل؟
كل يوم تأتينا الأخبار عن سقوط عقار إما لأنه متهالك ولم يتم تنفيذ قرار إزالة صادر له، وإما لأنه مبنى بدون ترخيص، والإحصاءات الأولية تشير إلى بناء عشرات الآلاف من العمارات بدون ترخيص خلال السنوات التالية لثورة يناير، فلماذا لا تحتل قضية مواجهة العشوائيات وإزالة الأبنية المخالفة الأولوية عندنا ولماذا لا تضغط كل قطاعات المجتمع لحل تلك القضية؟
نتكلم كل يوم عن ملف النيل وعن مخاطر سد النهضة وعن العطش المقبل والمفاوضات المتعثرة بينما يلقى أفراد منا القمامة فى النيل ويقضون حاجتهم فيه ويلقون بالمواشى النافقة فيه أيضا، ناهيك عن صرف السموم من المصانع وفوضى الأقفاص السمكية المسرطنة والملوثة للنهر، فلماذا لا نبدأ حملة وطنية للقضاء على التلوث فى النهر وإزالة التعديات عليه ومنع إلقاء القمامة فيه، وليعرف كل محافظ أنه مسؤول عن الجزء من النهر الذى يمر بحدود محافظته، على أن يتم مسح شهرى أو أسبوعى للنهر بالطائرات واختيار أفضل محافظ استطاع حماية النيل وأسوأ محافظ تخاذل عن حمايته.
تكلمنا كثيرا عن إصلاح الجهاز الإدارى للدولة وعن إغلاق باب الفساد بميكنة الجهات والأجهزة الخدمية، فلماذا تأخر مشروع الميكنة؟ فى الجهات والأجهزة الحكومية؟ ولماذا يظل التعامل البيروقراطى والزحام سيد الموقف فى المصالح والجهات الحكومية بما يعنيه ذلك من زحام وإهدار للوقت والطاقة وفتح باب الفساد؟ وأين ذهبت مشروعات الحكومة فى هذا الاتجاه؟ أهو مجرد كلام إنشا لإلهاء الناس أم مشروعات حقيقية جار تنفيذها؟ وإذا كانت مشروعات حقيقية فلماذا تعطلت وتأخرت؟ ولماذا نسكت جميعا على تعطلها وتأخرها وننشغل بسفاسف الأمور السياسية؟!
فليسقط السيرك السياسى، لتسقط النخبة باستعلائها وأمراضها ومصالحها، ولتسقط الغيبوبة التى تغرقنا بعيدا عن القضايا الأكثر تأثيرا فى حياتنا، ولتسقط مواقع التواصل وكائناتها العدمية!!