ليس من السهل أن يجتمع لأحد مثل السيد مصطفى الرافعى إذ وضع بين أيدينا فى كتابه ذاكرة الأدب العربى بحثاً مستفيضاً ليس فقط فى تاريخ الأدب العربى بل واللغة العربية ونشأتها وتفرعها وما يتصل بذلك، ثم أردفه كما وصفنا ببحث آخر فى تاريخ الرواية العربية. الأغراض التى بسطها فى هذا الكتاب إلا بعد درس طويل وتعب ممل، لا يقدر عليه كُتّاب عصرنا هذا، ولم يتأخر هو عن وصفه فى مقدمة كتابه. وأما أسلوب الرافعى لمن لا يعرفه فى كتاباته فإنه سليم من الشواعب الأعجمية التى تقع لنا فى كثير من كتاباتنا (نحن الهواة) أو بمعنى آخر (نحن العرب المتأخرين)، فكأنى وأنا أقرؤه أقرأ من قلم المبرد فى استعماله المساواة وإلباس المعانى ألفاظاً سابغة مفصّلة عليها لا طويلة تتعثر فيها ولا قصيرة عن مداها تؤدى ببعض أجزائها.
وكان لهذا الجزء من الكتاب، بل ولهذه المقدمة، إن دلت على شىء، إنما تدل على أن المؤلف خرج لنا من تاريخ أدب العرب ما يجمع شملها بعد التشتت فى كتب متعددة، ويكون بذلك، وعن حق، قد أدى للأمة أعظم خدمة فى الأدب، يؤديها أشد الأدباء غيرة على الأدب العربى وتاريخه. أقول ذلك وأكرر لأن الأدب كما يراه أهل العجلة فى النظر آلة مجردة لسمر الأدباء، وقصصاً جميلة مضيعة للوقت الثمين. بل الأدب وتاريخه من وجهة نظرى المتواضعة يجب أن يكونا شخصين من أقوى مشخصات الأمة يربطان ماضى أجيالها بحاضرها على مر العصور ويحددان ماهيتها ويميزانها عمّا عداها، فتستمر شخصيتها الأصيلة (مصرية كانت أو عربية)، وتتسع بذلك دائرة التشابه بين أفرادها ودولها (صاحبة نفس اللغة) لتقوى روابط التضامن بينهم، كأمة عربية واحدة متماسكة كما كانت فى الماضى. غير ما يكسب الباحث فى الأدب وتاريخه من رقة العواطف والمشاعر وحسن الذوق والقدرة على رقة العواطف والمشاعر وحسن الذوق والقدرة على رؤية الجمال والتعبير عنه وعمّا فى نفس الإنسان من عواطف وأفكار وإبداع، وحمل الانسان على الاصغاء إليه وقبول مذاهبه قبولاً حسناً. فالأدب فى كل زمان ومكان هو الصانع الوحيد لآلات شيوع المذاهب من الكتابة والخطابة والشعر والنثر.
فمن الغفلة فى هذا الزمان المعاصر أن يغمط حقه بين أدوات الاعلام والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والمشاهدة والمعرفة الحديثة، وتضييع قيمته المادية والمعنوية فى نفوسنا، بين تلك المعلومات والأدوات الانسانية الأخرى الحديثة. ولا أريد أن يفهم أحد أنى ضد "المعاصرة" لا بل ليس معنى هذا أن ننسى الأدب الأصيل واللغة العربية الجميلة "لغة القرّاء" والتى نهضت على أكتافها الأمة العربية، فهذا كله فيه من نفع الأفراد والأمة سواء كان قديم أو جديد، ولا يجب أن يحل أحدهم محل الأخر بل هم متكاملان.
لهذا النظر وكما ذكرنا أيضاً فكبر غرض السيد مصطفى الرافعى ونشكره على ما حقّقه هو وأمثاله من الرواد من هذا الغرض، ونحسن الظن من الآن بما سيأتى به الجدد من الكتّاب والأدباء فى تحديث تاريخ أداب العرب لتحقيق غرضه الكامل، ونقترح على كتّابنا وأدباءنا المعاصرين أن يتحرّوا تاريخ العباقرة من الشّعراء والكتّاب الحاليين والسّالفين، وإن يبحثوا فيه بقدر الإمكان وإن كان ذلك يدخلهم فى غمار الكتّابين من قبلهم فى تاريخ الأدب. لأن عملهم لا يأتى بأكمل ما ينتظر منهم الفائدة على الأمة، إلا إذا كملوا من هذا الطرف أيضاً، على أن يكونوا بعد ما رأيناه من قلم الرافعى القدير أقرب ما يكون إلى هذا المستوى المتميز حتى يرقوا بنا إلى الدرجات العليا من الأدب المنشود.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عجوز
إمام البيان