هو أحد العلامات الفكرية الناصعة فى تاريخ الفكر العربى الحديث، عاش مهموما بالبحث عن أصول الداء العربى، ومات محاطا بما نعانيه من انحطاط الفكر وانحطاط القدر وانحطاط الغايات، عرفته حينما بدأت التعرف على العلة والداء، وقرأت معظم كتبه، بحثا عن مخرج من أزماتنا المتكررة، فوجدت أنه كلما تعمقنا فى اكتشاف الأزمة تضاعفت الأزمات، ولهذا فور أن علمت بأنه سيأتى إلى القاهرة فى إحدى المناسبات الثقافية ذهبت إليه لأقابله ولضيق وقته لم نتحدث سوى 30 دقيقة لا غير، حيث إنه كان مرتبطا بالجهة الداعية للمناسبة وكان ميعاد طائرته فى صباح اليوم التالى.
وقتها كتبت مقالا فى 14 يناير 2012 وذكرت بعضا من الحديث الذى دار بينى وبين «طرابيشى» دون أن أذكر اسمه، وهو المقال الذى تذكرته فور أن سمعت نبأ وفاة طرابيشى عن عمر يناهز 77 عاما، وهو أيضا المقال الذى أتذكره على فترات متباعدة كلما تحقق شيئا مما ذكر فيه، فقد قال لى طرابيشى «إن الثورات العربية تمر بمنعطف تاريخى شديد الأهمية والخطورة، وإنه–وإن كان لا يشك فى عدالة مطالبها ووطنية القائمين بها- يتخوف من سرقتها على غرار ما حدث فى الثورة الإيرانية التى بدأها الشباب ثم سرقها رجال الدين»، كما قال طرابيشى إن هناك أدوارا مشبوهة يقوم بها بعض الدول العربية الشقيقة، واستشهد على كلامه بتسجيل صوتى كان فى حوزة القذافى، وتم تسريبه إلى مواقع الإنترنت بعد مقتله، وحينما استفسرت عن هذا التسجيل قال لى ابحث على الإنترنت عن مكالمة هاتفية بين حمد بن جاسم رئيس وزراء قطر والقذافى، ولما بحثت وجدت تلك المكالمة مفاجأة، التى ربما تكون قد تعرضت لعملية مونتاج حذف منها كلام القذافى، وهناك شبه إجماع فى مواقع الإنترنت على أنها منسوبة لحمد بن جاسم، وفى سياق البحث حاولت أن أجد رد فعل من قطر على هذه المكالمة لكنى لم أجد نفيا ولا تأكيدا، وفى هذه المكالمة يقول الصوت المنسوب لـ«بن جاسم» إن قطر ستعمل على إسقاط النظام السعودى وستدخل يوماً إلى القطيف والشرقية وتقسم السعودية، لأن النظام يعانى من الشيخوخة، والملك عبد الله مجرد «واجهة»، مؤكدا أهمية استقطاب الصف الثانى من الجيش السعودى، ثم تأتى المفاجأة الأخطر، وهى أنه يقر باجتماعه مع المخابرات الأمريكية والبريطانية، وطلب منهما المعاونة فيما يريد، فطلبت منه تقريراً عن الوضع فى السعودية، وأعربتا عن نيتهما بالخلاص من النظام والإطاحة به، لكنهما يخشيان من حكم إسلاميين آخرين غير مرغوبين.
أنظر الآن إلى هذا الحديث وإلى هذه المؤامرة وقد بدأت بعض فصولها فى التحقق فأوقن من رجاحة عقل صاحب كتاب «سبات العقل فى الإسلام» وأوقن من أقدامنا تنزلق كل يوم إلى عمق الهاوية، وأن مفتاح النهضة فى المنطقة العربية لن يكون سوى فى «مصر» الذى انحرفت عن مسار الثورة الإيرانية بإقصاء «حكم المرشد» ولم تُخيّب ظن «طرابيشى» لكنها أيضا حتى الآن لم تجن ثمار أحلامها.
رحم الله المفكر الكبير، حفظ الله مصر والأمة العربية من كل شر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة