فى ثورة 25 يناير استشهد ما يقرب من ثمانى مئة من شباب مصر هؤلاء الذين قلنا عنهم «الورد اللى فتح فى جناين مصر»، منهم مسلمون ومسيحيون ومنهم متعلمون وأميون ومنهم ليبراليون وماركسيون وإخوان مسلمين، ومنهم أغنياء وفقراء، ومنهم ساكنو أحياء الطبقات العليا وساكنو الطبقات العشوائية والفقيرة، ومنهم سكان القاهرة والإسكندرية والسويس وشمال سيناء وجنوبها، والمدن الكبرى وسكان الصعيد والدلتا وقراها وأريافها.
هؤلاء خرجوا ليضحوا فى سبيل تقدم مصر ورفعتها، وهم لم يأبه لحياتهم، ولم ينتظروا ثمنا ولا جزاء ولا شكورا، آثروا وطنهم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة فبعضهم كان وحيدا لأبويه، وبعضهم كان عائلا لأسرته، ومضى هؤلاء جميعا نحو الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل لم ينتظروا مغنما ولا منصبا ولا شهادة تقدير وإنما كانت وجهتهم الوطن وهمهم أن ترفع عن بلدهم الإصر والأغلال التى فرضها عليهم المستبدون والمحتكرون ومحاسيب الرأسمالية المتحالفة مع السلطة القمعية المستبدة عنوان الخراب لأنها ظالمة، والظلم مؤذن بخراب العمران.
قدم هؤلاء لمصر أفضل نموذج حى لثورة جماهير رفعت رأس مصر عالية فى العالم كله، وأصبح العالم كله يعتبر تلك الثورة نموذجا حيا لقدرة الجماهير على أن تسقط نظاما مستبدا بشكل سلمى، ولم تعد مقولات الاستبداد الشرقى المرتبطة بالأنهار وعبادة الحكام والفراعين تصدق على الشعب المصرى، ولن تصدق بعد، لأن الدماء التى أريقت بطيب خاطر من أجل نهوض الوطن ومن أجل قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية واحترام الإنسان لا يمكن أن تذهب هدرا لأن الدم سقى معانيها فلم تعد مجرد كلمات فارغة جوفاء وإنما حقيقية تمنحها دماء الشهداء معنى وقيمة وهذا معنى قوله تعالى «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»، حياة الشهداء بعد موت أجسادهم هى حياة القيم التى عاشوا وماتوا لأجلها.
وحين دخلت القوى المنظمة على الثورة وتحالفت لأجل مصالحها وسارعت منتهزة فرصة تاريخية على حساب قيم الشهادة والشهداء، فإنها مضت قليلا لمدة عام ثم ما لبثت أن تعرضت لموجة جديدة من موجات ثورة يناير، خرجت فيها الملايين تطالب باستلهام قيم ثورة يناير واحترام دماء الشهداء وتأسيس دولة مدنية عادلة وفية للعدل كارهة للظلم متجاوزة للقديم من أجل تأسيس الجديد.
هذه كانت حقيقة الملايين من البسطاء من الشعب الذين خرجوا وهم يريدون للدولة أن تعود لمدنيتها والمدنية تعنى التحضر ورفض الظلم وعدم الوقوع مرة أخرى فى أسر الاستبداد المقيت والاحتكار وتحالفات رأسمالية المحاسيب، بيد أننا رأينا رموزا قد ركبت ثورة البسطاء فى 30 يونيو وزعموا زورا وكذبا أنهم مفجروها وأنهم الذين قادوها، وأنه لولا هم لما نجحت تلك الثورة، ناسين أن الشعب هو من قام بالثورة وأن من ركبوا تلك الثورة كانوا أغمارا لولا ذلك الشعب الطيب، ولأنهم ليسوا صادقين فقد بدأ كل واحد منهم يزعم أنه زعيم، وأنه يريد أن يقبض من الدولة ثمن ما قدمه، وهذا هو الفارق بين ثوار يناير الطيبين المخلصين وأولئك المتاجرين بالثورات من أجل أن يحققوا من ورائها مغانم «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ * قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ»، المغانم والبحث عن الدنيا والمناصب هى عنوان للكذب والادعاء والنفاق.
الصادقون المخلصون لأوطانهم لا يبحثون عن أثمان، وقد كان من هؤلاء ثوار يناير، وشهداء مصر فى سيناء وآخرهم شريف عمر، وفى كل مكان شباب زى الورد يتلقون الموت غير عابئين سوى بنهضة وطنهم، بينما بقى المرتزقة يتنافسون على الدنيا بلا أدنى حس، فأشاعوا فى الناس منطق الأثرة والأنانية والوقوف على ركام الأوطان لكى يعلوا هم، هؤلاء ليسوا مخلصين لأنهم يطلبون الثمن، المخلصون هم الذين يضحون بلا نظر لأى مقابل، أولئك هم الصادقون.