وكأننا نعيش فى حياة من ظلالات وأوهام، ترى الواحد متحمسا منفعلا بخبر قرأه وتفاعل معه، ثم ما إن تسأله: أين قرأت هذا الكلام؟ حتى يرتبك ويفكر مليا قبل أن يجيبك: على «الإنترنت»، أو على «الفيسبوك»، لتغرق أنت بعدها فى ملايين المواقع والصفحات، دون أن تعرف هل ما يقوله هذا الشخص حقيقيا أم متخيلا؟ وهل نشر هذا الخبر فى مواقع ذات مصداقية أم فى مواقع مزيَفة (بفتح الياء) أو مزيِفة (بكسرها)، ثم ليغرق الجميع مرة أخرى فى خبر آخر، وموجة اهتمام غير مسبوق بحدث آخر بعد اهتمام غير مسبوق بحدث أقدم ، ثم لهفة وسعار بحدث ثالث سيتحول بعد لحظات أو ساعات إلى تاريخ من سراب، لا يعرف أحد مقره أو مستقره، كما لم يعرف أحد من قبل منبعه وأسباب الاهتمام به.
كانوا قديما يطلقون على أصحاب ذاكرة العمر القصير بأنهم مثل “السمك”، أما الآن فقد أثبتت الأيام أن “ذاكرة الإنترنت” قادرة على إقصاء “ذاكرة السمك” عن عرشها الشرعى، ففى هذه اللحظة التى أكتب فيها هذه الكلمات، ينشغل المصريون بواقعة خطف الطائرة المصرية من مطار برج العرب، وعزل المستشار هشام جنينة من منصب رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، ومباراة مصر ونيجيريا، لكنى لا أعرف على وجه التحديد هل هذه القضايا هى ما تشغل مصر الآن، وأنت تقرأ هذه الكلمات أم أن الأمر اختلف؟ وهل طفت قضايا أخرى على السطح لتزيح هذه الأحداث عن الصدارة، أم أن الحال كما هو؟ لكن ما أعرفه تماما هو أن مدة صلاحية هذه القضايا وغيرها لن تتعدى الساعات أو على الأكثر الأيام، وبعدها سينسى الجميع كل شىء، ونعود مرة أخرى إلى حدث آخر ليشغلنا فجأة، وينسحب فجأة دون أن نعرف كيف شغلنا ولماذا انسحب؟
الخطير فى الأمر أن حياتنا صارت معتمدة بشكل كبير على التفاعل اليومى مع الإنترنت، لكننا بدلا من أن نختصر الاعتماد على الإنترنت فى المكاتبات الرسمية والتعاملات العابرة، جعلناه قاسما مشتركا أعظم فى كل تفاصيل الحياة، به نحب ونكره وعلى صفحاته نتعارك ونتعارف ونعمل، من خلاله نأكل ونشرب ونسافر ونتعلم، وعبره ننفصل ونتصل، وعن طريقه نشيع أحباءنا ونستقبل أولادنا، ونعلن عن وجودنا اليومى، غير مدركين أننا باعتمادنا على الإنترنت فى كل شىء، فإننا نفقد الحياة حياتها، وننزع القدسية عن كل مقدس، والطقوسية عن كل شىء له طقس خاص وصيغة منفردة.
قد يمنحنا “الإنترنت” معلومة، لكنه لا يمنحنا معرفة، إذ يسهم الإنترنت فى تجفيف أى معنى وتدمير أى خصوصية، فيصبح كل شىء مثل أى شىء، ويتحول مستخدموه عبر الوقت إلى مستنسخات، لهم نفس الملامح ولهم ذات الاهتمامات، قطيع يسلم نفسه إلى قطيع، ولا وجود لفكرة طازجة أو حقيقة مؤكدة أو وجود متفرد، ويوما بعد يوم، يتحول الإنترنت إلى وحش كبير، يلتهم خصوصياتنا، ويمتص ماء حياتنا ويتركنا بلا روح ولا لون ولا رائحة، فنذهب إلى النسيان، دون أن يتذكر أحد لنا ضحكة صافية أو نظرة حزن أو موقف نبيل.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة