تمر ذكرى أحمد زكى كل عام لنتذكر أنه كان بيننا أحد أساطير هذا الفن، ونتدبر كيف أننا بالفعل فقدنا نهرا من الإبداع المدهش، وموهبة خارقة لا تتكرر ولا تستنسخ، ولأن كل من عرف أحمد زكى عن قرب لابد أن يستدعيه ويروى كراماته الإنسانية، فإننى كنت محظوظا لأننى صادقت أحمد على فترات واقتربت منه، وكذلك عرفت فى محنة مرضه أقرب إنسان إليه وهو طبيبه الدكتور ياسر عبدالقادر، أحد فرسان جراحة الأورام وعلاج السرطان فى مصر والعالم، ولأن الظروف الشخصية جمعتنى به لمدة عامين فقد كان الحديث المشترك بيننا وحتى أمس الأول هو أحمد زكى، ويوم 27 مارس وهو يوم رحيل النجم الأسمر كان يوافق يوم أحد وقد رحل أحمد يوم الأحد أيضا عام 2005، ويحكى لى طبيبه وصديقه الدكتور ياسر كاشفا عن سر لم يعرفه الكثيرون، وهو أن أحمد فقد بصره تماما قبل أن يموت بأسبوعين، ومن قوة إرادته طلب من طبيبه إخفاء هذا الخبر السيئ عن كل من حوله، بل إنه أكمل المشاهد الأخيرة من فيلم العندليب وهو كفيفو، وكان مذهلا وعبقريا فى أداء دور المبصر فى الواقع، كما كان عبقريا فى أداء دور الكفيف طه حسين فى الشاشة.
وَمِمَّا يحكيه طبيبه الدكتور ياسر أن الدكتور أسامة الباز جاء لزيارته فى جناحه بالمستشفى وقام لاستقباله من فراشه، وجلس بجواره على الكنبة، وظل يحكى له قصصا ويتسامران، ووقف الدكتور الباز مودعا دون أن يشعر أحمد الذى ظل يتكلم باعتبار أن ضيفه جالس، وهنا تنبه الباز وسأل الطبيب هل هناك شىء فى بصره، فأجابه نعم، هناك جلطة فى المخ أثرت على البصر، وهنا انزوى الدكتور أسامة الباز وبكى بحرقة. وَمِمَّا يحكيه الطبيب أن أحمد زكى أجرى بروفة لموته ولاستقبال عزرائيل قبل لحظة الموت، وهنا شفافية منقطعة النظير، حيث طلب أن يذهب إلى بيته فى المهندسين وأخد يؤدى أمام طبيبه ومدير أعماله مشهد استقباله لعزرائيل، فقال سيأتى ملك الموت سأقول له تفضل اجلس هنا بجوارى او اجلس على هذه الكنبة وانتظرنى من فضلك دقائق لأتمم على صوان العزاء بالحامدية الشاذلية - وكان قريبا من بيته - سأعود فورا بعد أن أتمم على المعزين وهو يتكلم ويجسد شخصية عزرائيل والحوار بينه وبين أحمد نفسه، وهنا أسأل الطبيب هل كنت تتأثر بهذا الكلام من مريضك الذى ينتظر الموت ويصادقه ويرحب به، يقول: حالة أحمد كانت متأخرة وهو كان يعلم أن أيامه معدودة قبل أن يبدأ فيلم العندليب، ومع ذلك أصر على تصويره، وقد أكرمه الله بإنجازه، وفى الأيام الأخيرة كنت أشعر بأنه يعود طفلا بريئا وكان يتحدى شدة الألم بالسخرية والابتسام والإيمان بالله.
حكايات الطبيب الحكيم والفيلسوف لا تنتهى، حتى إننى طلبت منه أن يكتب كتابا ووعدنى لأنه كتب منه بعض الخواطر، أما عن نفسى فأذكر أننى زرته أثناء تصوير فيلم ناصر 56 ودخلت حجرته فى استديو الأهرام، واستقبلنى بترحاب وعانقنى، فقلت محتفيا «أيه يا أحمد الاتقان ده، فنظر لى غاضبا وصرخ كلم الريس بتوقير اتفضل المقابلة انتهت، ولأنه خطفنى فخرجت وعزمت أن أغادر المكان لكنى وجدت الأستاذ فاضل مخرج الفيلم ينادى على ويجلسنى بجوار المونيتور ويقول لى ماحدش بيناديه إلا بكلمة ياريس، وبعد انتهاء التصوير سحبنى أحمد من يدى وركبنا سيارته البيجو البيضاء وأخذ يحكى لى فى الطريق وهو يقود سيارته ثم يترك الدركسيون ويكشف عن جراحة فى جسمه ويصرخ شاكيا ممن يحاربونه وأنا أمسك المقود وأقول له اهدأ ها نعمل حادثة، ووصلنا مصر الجديدة فإذا به يقول لى انزل نتغدى، قلت ياريس أنا آسف أنى أخالف أمرا رئاسيا بس ممكن تؤمر بالقبض عليه، أنا لازم أروح آكل فى بيتنا فقال، أنا خدتك وعربيتك فى الاستديو ومد يده لجيبه ليستخرج رزمة فلوس ليعطيها لى لأركب تاكسى فقلت وبعدين ياريس تانى مرة هخالف أمر رئاسى العفو والسماح، وبعدين مفيش صحفى ياخد رشوة من رئيس جمهورية ولاعاوزهم يقولوا عليك عبدالناصر فاسد، وضحك ومشيت، الله يرحمك يا أحمد، أنت عصى على النسيان يا أروع فنان وأرق إنسان.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة