أبدا لم يكن التاريخ العربى صامتا بل ملىء بالمقاومة ورجالها وبالمراهنين على الشعوب وقدرتها على الخروج من العثرة الطويلة التى نعيش فيها، والشاعر العراقى الكبير مظفر النواب الذى يرقد الآن مريضا فى لبنان، بعيدا عن عراقه الكبير الموجوع، نموذج حقيقى للمعارضين الحقيقيين الذين دفعوا ثمن أفكارهم، فهو رحلة طويلة قضاها فى قول المسكوت عنه مهاجما الحكام العرب والأنظمة العربية، فاضحا عجزهم ومبينا قلة حيلتهم ومحملا إياهم المسؤولية كاملة، قائلا: لست خجولا حين أصارحكم بحقيقتكم.
عاش مظفر النواب طوال حياته سواحا فى البلاد باحثا عمن يسمع قوله ويأخذ به، فقد كان يعرف أعداءه ويعرف تابعيه ويعرف خلصاءه والذين هم خلصاء الوطن ومحبوه، وظل صارخا فى البرية يقول: لا تخشوا أحدا فى الحق/ فما يلبس حق نصف رداء/ ليس مقاتل من يدخل نجد بأسلحة فاسدة/ أو يجبن، فالثورة ليست خيمة فصل للقوات/ ولا تكية سلم للجبناء/ وإياكم أبناء الجوع فتلك وكالة غوث أخرى/ أسلحة فاسدة أخرى/ تقسيم آخر/ لا نخدع ثانية بالمحور أو بالحلفاء/ فالوطن الآن على مفترق الطرقات/ أقصد كل الوطن العربى/ فإما وطن واحد أو وطن أشلاء/ لكن مهما كان فلا تحتربوا/ فالمرحلة الآن/ لبذل الجهد مع المخدوعين/ وكشف وجوه الأعداء.
أصبح «النواب» عجوزا الآن بعد 82 عاما ويقولون بأنه مصاب بالزهايمر، لكن ما حاجته للذاكرة وقد قال كل شىء يريده وأخجلنا جميعا وأثبت أننا متورطون حتى بالصمت.
و«مظفر» أكثر من كونه شاعرا عراقيا معارضا، فإنه دليل لما تتعرض له الروح والعقل فى بلادنا، حيث تعرّض للملاحقة وسجن فى العراق، وعاش بعدها فى عدة عواصم منها بيروت ودمشق ومدن أوربية أخرى، ففى عام 1963 اضطر لمغادرة العراق، بعد اشتداد التنافس بين القوميين والشيوعيين الذين تعرضوا للملاحقة والمراقبة الشديدة من قبل النظام الحاكم، فكان هروبه إلى الأهواز عن طريق البصرة، إلا أن المخابرات الإيرانية فى تلك الأيام ألقت القبض عليه وهو فى طريقه إلى روسيا وسلمته إلى الأمن السياسى العراقى، فحكمت عليه المحكمة العسكرية هناك بالإعدام، لكن خفف الحكم إلى السجن المؤبد.
وعاش فى سجن «نقرة السلمان» الشهير ثم انتقل إلى سجن الحلة الواقع جنوب بغداد، وفى هذا السجن تمكن الشاعر من الفرار حيث قام مع مجموعة من السجناء بحفر نفق من الزنزانة إلى خارج أسوار السجن وظل متخفيا حتى صدر حكم بالعفو عن المعارضين.
مظفر النواب قال كلمته كاملة والآن مريض فى انتظار رحمة ربه، نادى بالوحدة وحمَّل الجميع ذنب فلسطين الضائعة وأثقل كاهل حكامنا بكلماته الباقية، وألقى كلمة حق فينا منشدا: لا أستثنى أحدا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة