هموم وانشغالات.. آلام وأحزان.. أحداث جسام ومسؤوليات.. ربما لم يخل يوم عاشه الحبيب - صلى الله عليه وسلم - من تلك الأمور التى يكفى أحدها لتنغيص حياة أحدنا، وإخفاء البسمة عن وجهه، ورسم ملامح الكآبة والضنك على وجهه وسلوكه ومعاملاته، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن كذلك.
تحدثت فى مقال الأسبوع الماضى عن لين جانبه وذوقه فى معاملة أصحابه، واليوم نستكمل حديثنا عن جانب من أجمل الجوانب فى شخصية النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو ذلك المتعلق بطبيعته النفسية الرحبة وصدره الواسع، ولين جانبه، وبشاشته وبِشره، وحسن تواصله مع الكون من حوله، رغم الهموم والانشغالات والأحزان والمسؤوليات، لقد كان حقا ذا نفس جميلة، نفس تبدو بشاشتها لكل من يعرفه، ويتأمل طبيعته، ربما يظهر ذلك فى ملمح قد يعده البعض يسيرا لكنه ينم عن تلك الطبيعة الجميلة بوضوح، لقد كان حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - يسمى أشياءه كل أشيائه، تقريبا ما كان يترك شيئا له إلا ويجعل له اسما أو لقبا، سواء فى ذلك ما كان مخلوقا ينبض بالحياة أو حتى جماد بارد لكل دابة كان يمتلكها أو يركبها، لها اسم أو لقب، فبغلته اسمها «دلدل»، وأخرى سماها «فضة»، وحماره «يعفور»، وناقته «العضباء»، وقيل «القصواء»، أما شاته التى يشرب لبنها فكان يسميها «غينة» ويقال «غوثة»، وكانت له عنزات أسماؤها «عجوة وزمزم وسقيا وبركة وورسة وأطلال وأطواف»، أما أفراسه فأسماؤها «لزاز والورد والمرتجز والسكب والطرب»، وهذا الأخير سمى بذلك لحسن صهيله، و«اللحيف» سمى بذلك لأنه كان كالملتحف بمعرفته.
أما عن أشيائه فقد كانت له عمامة يسميها «السحاب»، وكان اسم قوسه «الكتوم»، واسم كنانته «الكافور»، ونبله «الموتصلة»، وترسه «الزلوق»، ومغفره «ذو السبوغ»، واسم ردائه «الفتح»، واسم رايته «العقاب»، وكان له قدحان اسم أحدهما «الريان» والآخر «المضبب»، وكان له تور من حجارة يقال له «المخضب» و«المخضد» يتوضأ فيه، وكانت لسيوفه أسماء أيضا أشهرها «ذو الفقار»، و«المخذم»، و«الرسوب»، و«العضب»، وكان له رمح يقال له «المستوفى». وكانت له عنزة قصيرة يقال لها «المثنى»، وأما دروعه فكان يطلق على إحداها «ذات الفضول»، وأخرى يسميها «الفضة»، وثالثة يقال لها «السعدية»، ودرع اسمها «ذات الوشاح»، وكانت له قوس نبع تسمى «السداد»، وكانت له كنانة تسمى «الجمع»، وكانت له حربة تسمى «البيضاء»، وكان له مجن يسمى «الوفر»، وكانت له ركوة تسمى «الصادر» وكانت له مرآة يسميها «المدلة»، وكانت له مقراض يسميها «الجامع»، وغير ذلك كثير مما ذكره أهل السير، ولا يتسع المقام لذكره كله، ويشترك فى تلك الخاصية العجيبة خاصية الأسماء التى أطلقها عليها حبيبنا - صلى الله عليه وسلم.
تخيل هذه النفسية التى رغم انشغالها والهموم التى تحملها والبلاءات التى تتوالى على صاحبها، ومع ذلك تصر على تسمية مرآة أو كوب ماء أو درع!! بعضنا لو فعل مثل ذلك لربما تلقاه الناس بالاستهجان واللوم والاتهام بالتشاغل عن الهموم الجسيمة والمهمات الجليلة ولرُمى باللامبالاة أو كما يقال بالعامية «الروقان»، لكن سيد ولد آدم وحاشاه أن يُرمى بشىء مما سبق.
كان حريصا كما رأينا على تلك العادة المترسخة فى سلوكه، وذلك واضح فى تلك النماذج التى ضربناها آنفا، وتفسير ذلك فى رأيى أمران، أما الأول فهى تلك الطبيعة النفسية الرحبة التى أشرت إليها فى مطلع الكلام، وأما الثانى فرغبته - صلى الله عليه وسلم - فى غرس تلك القيمة فى نفوس من يعرفونه ويقتدون به، قيمة البِشر والبشاشة واللين والحنان، حنان يسع كل من حوله وما حوله، حنان يجعله يضع روابط مودة وأواصر صلة وجسور علاقة مع كل ما يحيط به، لا يحجب هذا الحنان هم ولا تقطع تلك الروابط أزمة ولا يقضى بلاء على تلك القيمة ولا تُضيِّق هذا الصدر الرحب مسؤولية أو يعكر صفاءه انشغال، هكذا كان بأبى هو وأمى، فأين صدورنا الضيقة من صدره؟! وأين نفسياتنا من جمال روحه وسمو نفسه؟!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة